الاثنين، 1 أبريل 2013

القصة الفائزة بالمركز التاسع في مسابقة مغامير للقصة القصيرة


الزمان : منتصف القرن الماضى
المكان : إحدى بنايات منطقة وسط المدينة

أبجدية الصعود والهبوط

هو طفل السادسة فى ردهة مدخل البناية .. كان يركض هناك .. لا نستطيع أن نميّز ترتيبه وسط تلك العائلة المكونة من عدد كبير من الأخوة والأخوات بأعمارهم المتدرجة من الـ"عشرين عامًا" إلى الرضيع .. متشابهون فى سمرة البشرة ونصاعة بياض الأسنان وكأن فى بياضها الناصع إهانة لسمرة بشرتهم .. ربما كان يتميز عنهم  بعيونه الذكية اللماحة ، وبشعر يصعب على سنون المشط  أن تجد طريقها فيه . كان يركض هنا وهناك بجلبابه الأبيض القصير وقدمين صغيرتين كانتا دومًا  بدون حذاء . وجد فى تلك الردهة الفسيحة ملعبًا له .. شيء واحد كان يجعله بين الحين والآخر يتسمر مكانه : إنها أسلاك المصعد التى قاربت على التهالك وهى تصدر ذلك الصرير أثناء هبوطه وصعوده .. عيناه معلقتان عليه ، وكلما كبر فى العمر زاد تعلقه بهذا الصندوق الخشبى الذى كانت أمه تخشى أن تقربه ظنًّا منها أنه عمل من الشيطان . كان يرفض الانصياع لأوامر أبيه بالمشاركة فى تنظيف الدَّرج الرخامى أو شراء طلبات السكان من السوق، أو حتى الجلوس على المقعد الخشبى أمام البناية  لحراستها ، بينما كان يهرع لتلبية أوامره له فى تنظيف المصعد من الداخل وتلميع مرآته بورق الجرائد المبلل بالماء حتى يزيل أى آثار عالقة عليه .
ذات يوم أثناء تنظيفه للمصعد طلبت منه عجوز أن يصعد بها إلى الدور الرابع لمعاودة طبيبها ،  فهى لا تملك رفاهية الاقتناع بهذه الآلة الغريبة وتجهل حتى كيف تعمل . ابتسم ابتسامة واسعة كشفت عن أسنانه البيضاء .. للمرة الأولى تتاح له فرصة مواصلة الأدوار صعودًا وهبوطًا . كانت المرة الأولى التى سيستخدم فيها المصعد دون أن يتعرض للوم من أبيه أو إهانة أحد من السكان ، فقد كان يتبع تلك الفئة التى عليها أن تستخدم الأبواب والدرج الخلفى ولم تكن –أبدًا- الوجهة الأمامية مرحبة بهم . زادت ابتسامته اتساعًا عندما وجد تلك المرأة قد اكتسى وجهها بملامح الرعب ، وأخذت تتمتم بالمعوذات الثلاثة بينما كان هو يطمئنها بأنه لا داعى للخوف . أخيرًا توقف المصعد فتنفست العجوز الصعداء ، ولم تمنعه الفرحة يومها من التهليل والتصفيق عندما أخبره أبوه أنه سيكون المسئول عن إدارة المصعد طالما أنه لا يجيد شيئًا فى حياته مثلما يجيد الضغظ على لوحة المفاتيح النحاسية بمفاتيحها السوداء البارزة التي يحمل كل منها رقم دور من الأدوار الثمانية فى تلك البناية . سريعًا تأنق كما لم يتأنق مسبقًا ، فارتدى لعمله الجديد جلبابه الأبيض وأحكم ربطة عمامته وانتعل خفه الشتوي ووقف ليؤدى عمله الجديد .
فى أسابيعه الأولى استطاعت ذاكرته أن تطبع سكان العمارة وأقرباءهم وأصدقاءهم ، حتى المرضى الذين كانوا يعاودون الأطباء بالبناية . كان أصبعه يمتد بطريقة آلية ليضغط على المفتاح المخصص لرقم الدور . أخذ عمله الجديد مأخذ الجد منذ اليوم الأول ، فلم يكن يتوانى عن الاستيقاظ فى الخامسة صباحًا .. يقف على باب المصعد ليستعد للعمل موقنًا بأن الأستاذ مسعد الذى يعمل بأحد البنوك بضاحية مصر الجديدة ستكون يده أول يد تمتد لطلب المصعد ، لذلك كان يقف متأهبًا لتأدية وظيفته ، وإمعانًا فى إحكام دوره -وحتى لا يشاركه فيه أحد- صنع مفتاحًا ذهبيًّا كبيرًا للمصعد يضعه دائمًا فى جيبه . مع الوقت شعر بأهمية الدور الذى يؤديه .. يكفى أنه إذا أغلق الباب بالمفتاح واختفى عن الأنظار لبضع دقائق تتزاحم الأجساد بانتظاره وتصفع الأيادى الأبواب ، وهو كما هو لا تنتابه النشوة إلا وهو معلق بين السماء والأرض فى تلك الغرفة محكمة الغلق ، مستمتع بوجوده مع كائن آخر أحيانًا يكون سخيًّا فيبتسم فى وجهه ، وأحيانًا أخرى يكون أكثر سخاءً فيلقى عليه تحية الصباح . حتى كان أحد الأيام التى جاءه فيها مسرور ، ذلك الفتى الأسمر الذى يعمل فى الجوار ، ليخبره بأن اللوكاندة الكبيرة التى تطل شرفاتها على نهر النيل ، والتى تبعد عنهما عشر دقائق سيرًا على الأقدام ، تعلن عن وظائف شاغرة للعمل بالمصعد وبخدمة الغرف وتقديم الطلبات ، وأخبره بذلك طلال ابن عمه الذى سيتقدم لوظيفة حامل الحقائب طمعًا فى جزيل العطايا من الزبائن . أما مسرور فقد أخبره أنه سيلتحق بالعمل كسفرجى ليرتدى ذلك الجلباب المزركش الذى يرتديه خاله الذى يعمل سفرجيًّا فى محل جروبى .
وفى الصباح الباكر كان ثلاثتهم يخطون عبر طرقات الأزقة الضيقة يختصرون المسافة التى تفصلهم عن الفندق ، كل منهم يحمل الشهادة التى حصل عليها وأوراقه الشخصية . كان أكثرهم فخرًا طلال، فهو يحمل الشهادة الإعدادية التى تمنحه الحق أن يسير وسطهم بشموخ ، أما هو فلم يكن يعلم من الحياة سوى أبجدية الصعود والهبوط . لم يُقبل فى الوظيفة سوى "علي" ، فخبرته في إدارة مصعد البناية ، وبضع كلمات من الإنجليزية والفرنسية كان قد تعلمها من الأجانب الذين يسكنون بها وكانوا يرددونها على مسامعه عند استقلالهم المصعد أتاحت له فرصة إدارة مصعد فندق الخمس نجوم الذى يرتاده صفوة القوم . فى الأدوار السفلى التى خصصها الفندق لغرف العاملين سلّمه المدير رقم خزانة ليضع متعلقاته الخاصة بها. بدّل علي ملابسه ونظر فى المرآة بخيلاء شديد وهو يتطلع لنفسه بمظهره الجديد : بدلة كحلية اللون بأزرار ذهبية كبيرة وكتافات مزركشة .. كان أكثر ما يؤذيه تخليه عن العمامة البيضاء وارتداء الطربوش . ابتسم علي عندما تذكر كم يظهر مصعد البناية وضيعًا مقارنة بذلك المصعد الفسيح بأبواب كهربائية نحاسية تغلق وتفتح آليًّا ، والمجهز بهاتف فى حال حدث عطل ما .
كان يومه يبدأ من السادسة صباحًا حتى الثامنة مساء ، وبذلك كان عليه أن يقضى فى تلك المساحة الضيقة من العالم كل ساعات يومه أو ربما كل ساعات عمره . هو ، بابتسامته الجذابة ، وبعيون ذكية وقدر لطالما حلم به أصبح صديق الجميع ، فهو لم ينسَ يومًا نصيحة مديره بأن لا يدع الابتسامة تفارق وجهه حتى فى أصعب الظروف . أيقن منذ البداية أن زبائن الفندق الخمس نجوم مختلفون عن سكان البناية ، فهؤلاء قد تكلفوا الكثير للعيش فيه وعليهم الحصول على خدمة تجازي مدفوعاتهم حتى إن كانت مجرد ابتسامة متكلفة . كان يعلم أن هؤلاء المسجونين معه فى تلك الغرفة المغلقة لبضع دقائق يأتون بأحلام وآمال مختلفة .. يقيمون فى حجرات فاخرة ويرقدون على أسِرَّة باردة خالية من الذاكرة ، فلِمَ الحزن إذن ؟ مع الوقت أصبح -منذ أن يصدر الباب رنينه الاعتيادى إيذانًا بوصول المصعد- تتلاحق الوجوه الواحد تلو الآخر كل منها بعناوين مختلفة .. ذاكرة مختلفة وأعمار مختلفة ، وكان حدسه يدله على ماهية كل واحد ؛ فهذا العربي بجلباب ناصع البياض وغطاء رأس مطبوع على أحد حوافه الماركة العالمية لبيت الأزياء الذي قام بتصميمه ، وتتدلى المسبحة الماسية من بين أصابعه بدون اكتراث ، بينما يتطلع بعين نهمة لتلك السائحة الفرنسية اللامبالية إلا بذلك الكتيب السياحي بين يديها وزجاجة مياهها المعدنية ، فقد حذرتها شركة السياحة مسبقًا أن لا تشرب من مياه النيل الملوثة حتى إن لم تتحقق نبوءة "من شرب من مياه النيل سيعود مجددًا". وتلك العجوز الإيطالية التى تتعكز على عصاها الخشبية لم تأبه بتحذير طبيبها لها من السفر لسوء حالتها .. تركت كل شىء وراءها وجاءت لتحظى برؤية الأهرامات قبل أن تودع الحياة . وذلك الطبيب الألمانى ببشرته البيضاء ، التى اكتست حمرةً من لهيب شمس أغسطس الحارقة ، يحمل بين يديه حقيبة شخصية تمتلئ بأحدث التقارير الطبية التى توصل إليها فى علم الأجنة .. سيلقيها أمام الوفد المحتشد فى قاعة الفندق التى تستضيف المؤتمر الطبى . أما هذا الهندى فهو على يقين بأن عمامته ستحوز سخرية الكثيرين . وبالنسبة لرجل الأعمال الياباني بعيونه الذكية التى تلاحق لوحة المفاتيح متأففًا ، فالوقت عنده أهم من أن يقضيه صعودًا وهبوطًا لأكثر من عشرين  دورًا .
بينما كان أكثر ما يسعد علي هو توصيله العرسان الجدد للدور العاشر ليقضيا ليلتهما الأولى بعد حفل الزفاف الفخم الذى أقيم فى قاعة الفندق ، وفى كثير من الأحيان يختلس النظر للعروسين وهما يتابعان صعود الأدوار بشوق ولهفة ، وتلك القبلة التى يطبعها العريس على شفاه عروسه .. كانا يسرّبان له بعضًا من تلك البهجة التى يتمتعان بها . بمرور الوقت أصبح ذلك الفندق وتلك الغرفة بيته ، وزبائن الفندق عائلته ، حتى إنه فى نهاية كل يوم يمرُّ على المطبخ ليحصل على علبة كرتونية ممتلئة بما لذ وطاب مما خلَّفه طعام البوفيه المفتوح .
 مر الزمن سريعًا ، وكأنه كان يستقل معه المصعد ، ليتراكم عامًا وراء عام فوق طوابق العمر ، ويتحول شعره للأبيض وتزحف الشيخوخة على ملامحه ويصبح الظهر أكثر انحناءً والخطوة أكثر وهنًا . لاحظ هو ذلك فى تلك الصورة الفوتوغرافية التى التقطت له فى الحفل السنوي الذي يقيمه الفندق للاحتفال بالعامل المثالي ، وهو يقف بخجل وسط الموظفين ، والمدراء بالفندق يشدون مهنئين على كفه الضعيف .  وتأتي مقولة "دوام الحال من المحال" التى يؤمن بها وتشهر سيفها فى وجهه .. ستباع الشركة المالكة للفندق لأخرى أكثر شهرة وعالمية فى عالم الفنادق ، وسيتم الاستغناء عن الشكل الكلاسيكى الفندقى لتحل محله الآليات الحديثة فى عالم الفندقة ، ومعه سيتم الاستغناء عن كافة العاملين به .
وقعت تلك الكلمات على الجميع كالصاعقة خاصة عم علي ، فلم يكن عمله فى ذلك الفندق بنيّة كسب العيش .. بل كان الفندق بمثابة بيت له . والآن ماذا عليه أن يفعل ؟ وبأى الطرق يسير ؟ وماذا بإمكانها أن تفعل شهادة الخبرة التى وقّعها له مدير الفندق الآن وهو على مشارف الستين ؟ بعد أكثر من أربعين عامًا قضاها فى ذلك المكان كان كطفل صغير يُنتزع من يد أمه التي يتشبث بها . وبصُرّة ملابسه القديمة التى وضع فيها جلبابه وعمامته اللتان قدم بهما يومًا وكساهما الكثير من التراب ، وبدون أن يودع أحدًا ، غادر المكان .
لم يعلم عدد الأيام التى تعاقبت عليه وهو مستغرق فى أحزانه فى تلك الغرفة الباردة بعدما تخلص من استفزاز رنين المنبه المزعج ليذكره أنه –أخيرًا- لن يعاود الصعود والهبوط فى طوابق قدره .. ضرب بالمنبه عرض الحائط لتتناثر شظاياه أرضًا ، وعلى بعثرتها لم يكن هو بحال أفضل منها . طرقٌ قويٌّ على الباب .. بخطى تستند إلى الجدار قام ليفتحه .. كان زميله الذى يعمل معه وردية الليل يخبره بأنه التحق بالعمل فى إحدى المستشفيات ، وهناك وظيفة شاغرة لوردية النهار وعليه أن يتقدم إليها ، ثم غادر بعدما طلب منه أن يقوم بتهذيب ذقنه وتصفيف شعره ، وسيمر عليه فى صباح اليوم التالى .
فى الصباح الباكر تذكَّر أحد الصباحات الباردة قبل هذا اليوم بأربعين عامًا عندما كان يخطو ممتلئًا بالأمل على حصى الطريق .. مرّ الأتوبيس سريعًا أمام الفندق ، وبنظرة عابرة وجده قد تحول لأنقاض . كانت الحفارات تعمل بكل جد وجهد . بعد لقاء سريع مع مسئول التوظيف استلم عمله الجديد ووقف على بوابة المصعد ليبدأ من جديد ، وبالرغم من سعة المصعد إلا أنه شعر أنه ضيق مزدحم بأجساد متلاصقة وعيون تائهة حزينة .. كانت روائح مواد التخدير والمطهرات تدير رأسه ، وذلك الإحساس الذى ينتابه كلما أوشك المصعد على الصعود كأن روحه تنسحب منه ببطء ، كل ذلك تجمع معًا فى ذلك الجسد الواهن الضعيف ليسقط مغشيًّا عليه .. ثم يفيق فى حجرة الطورائ على يد الطبيب وهى تفحصه .
ابتسم الطبيب يخبره أنه بخير .. كل ما هنالك أن بعض الناس تصيبهم عقدة الأماكن المغلقة وعليهم معاودة طبيب نفسى . كان الطبيب يتحدث بينما عم علي هناك فى دهاليز الذاكرة ، عندما وقف يومًا وسط العاملين بالفندق يستلم شهادة العامل المثالي .. أعاده للواقع مرة أخرى صوت فلاشات الكاميرات التى كانت تلتقط الصور له .. نظر للطبيب كأنه يكتشف وجوده للمرة الأولى .. كان يكتب روشتة مطولة أعطاها له وهو يربت على كتفه قائلًا :
"هذه بعض الفيتامينات .. أما بخصوص العقدة التى حدثتك عنها فليس لها علاج سوى أن لا تستقل المصاعد" !

                                                  
رشا عدلي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق