علاقات خاصة
"وآخر ما أفعله قبل أن
أُسْلِم الروح، نَفَسٌ أخير من سيجارتي.. بعد الشهادة مباشرة"
كان هذا أبي..
وعن جدي، كان آخر فعله
في الحياة أن أطفأ سيجارته بعد أن لسعت إصبعه وكتم آخر نفس بصدره .. تشهّد ثم
زفره، ومات.
الأمر هنا لا يتعلق
بالرب
أذكره يحكي ـ حينما كان
يحكي ـ لي عن سيجارته الأولى، وكيف أنه بذل في سبيلها أسبوعين من الكحّة، فكما
يحكي كان يسكن مع محرقة سجائر.. عشر شباب مدخنين وهو الأحد عشر، وحينما التقمها ـ
وكانت بكرًا ـ أزالت عنه كل تكلّفٍ ورَهَق.. وجد الراحة معها، كما لم يجدها روميو
ولا كثيّر.. قال أن المتعة لا في كثرة الذكر بل في الإشباع.
وعلى عكس كل عاشق
متصوّف كانا ـ أبي وجدي ـ مُغرِقان في عشق ذات الفانية، قالها جدّي: "السجائر
أوفى كثيرًا من امرأة ـ تحرقك وتحرق أموالك كي تتألق هي ـ السجائر تحرق أموالك
وتحترق هي لأجل متعتك".
أما أبي فيقول مبررًا
عزوفه عن السجائر الباهظة: "العُلبة الـسوبر أقرب لامرأة ريفية، تأكل السمن
السائح بالسكر كتحلية وخداها متوردين على الدوام، تصدُّ عنْك البرد بأنفاسها
الدافئة، أما العُلب الـشيك.. تستهلك طاقتها في مظهرها وأنفاسها سريعة الخبْو
وباردة".
الغريب فيهما أن الجدّ
ما بارح مُصحفه وما اكتفى من سبّ حفيده ـ وابن عمي ـ كلما شمَّ رائحة
السجائر حوله، وأبي.. لم يختلف كثيرًا يصلّي في المسجد ـ حتى أنني افتقد ضمّة يديه
في الصلاة ـ ولا يكفّ عن سبّ
دين أخي إذا ما ضبطه يلوك قطعة لبان بالنعناع، ثم إذا انتهى زاده من "السوبر"
طلب منه المعونة!
أطراف الأصابع
المحترقة.. الأظافر الغليظة .. الشفاه الغامقة.. اللثة الزرقاء .. الرئات السوداء
ـ والتي أراها بالفعل ـ وترنحاتٍ في تعداد ضربات القلب ـ محبب كثيرًا لأذني ـ
وإغراء الرائحة المختلطة بالتبغ، أشياء ربطتني بهما .. فلسفتهما في ربط عشقهما لها
بكل شيء، في تحرير مخرجٍ لمآزقهم المتكررة معي محاولةً "خطف" سيجارة من
العُلب الكثيرة جدًا، وحتى في سياسة المنع والمنح التي اتباعاها، تساؤلاتي الساذجة
عن "هل لأن آخر مافعله جدّي ـ وما فعله طوال حياته ـ كان نَفَس سيجارته مات
بعمر ينتقص سنتين فقط من المائة؟ و .. هل سيعمّر أبي هكذا؟ هل يعتقد أنه سيعمّر
مثل أبيه لأنه شَرِه وشَبِقٌ مثله؟ .. وهل ورثت حبها منهما؟"
هل كانت تساؤلات وجودية
مشروعة حقًا؟؟
أم أن السجائر ـ
وحديثها ـ حرام؟؟
كان جدي يقول: "لا
تدخلِ الأبواب المفتوحة .. حرام، أنيليني عُلبتي والكبريت، السجائر لا تتقدّ ولا
تهَب سرّها سوى للكبريت"، وكنت أبكي ، لِمَ لا يريدني جدّي جواره كما يفعل
أبي؟ كنت صغيرة تحبّ أباها وجدّها، وكانت أمي تخبرني أن: "لا بد وأنكِ كنتِ
صبيًا والملائكة أخطأت ونسيت ووضعت لكِ شعرًا، لاتدخلِ الأبواب المفتوحة، لاتتشممي
سجائر جدّك".
أخبركم سرًا؟ أكثر ما
كان يجذبني لأحضان أبي أنه كان يدخّن بجواري ولايهتم بتحذيرات أمي عن رئتيَّ
الطفلتين!
وعن قبلات السجائر
أحدثكما أكثر، كنت طفلة خجلة.. لا أذكر أنني سمحت لأبي وجدي بتقبيلي، لذا كنت أعشق
النظر إليهما يدخنّان ويضمان شفتيهما عند الزفير، ويهبانني قبلة داخنة رائعة.
وعن لسعة النفسِ الأول
في الصدر، تنفُّسها عميقًا، كثيرًا ما قال جدي أنه ما عشق مثل حواء، وماخانها إلا
لأجل لسعة صدره من سيجارته، وعن أبي الذي ما عشق مثل حواء أيضًا ما خانها إلا لأجل
اللسعة الأخيرة في الشفاه.
ربما ما عشقاها إلا لأن
كل أمرها احتراق وإحراق، ماجنة تحرق القلب والأصابع والشفاه.
حنان الشافعي
بجد .. قصة ممتازه وكاتبه رائعه .. في انتظار المزيد .. وارجوا ان كان هناك المزيد ان يخرج الي النور
ردحذف