القاريء المتبحر في عوالم نجيب محفوظ الابداعية، يسنطيع
أن يخبرك بسهولة أنه الوحيد من بين ادبائنا الذي لا يشعره بالملل؛ فقد كان الأسبق
الي اختيار أساليب سردية تعد جديدة نوعا علي أدبنا العربي- او ابتكارها في بعض
الاحيان-حرص علي الهروب بها من طرق السرد التقليدية، فنجده يستخدم أسلوب التقطيع
الي مقاطع او حكايات كما في"الحرافيش" "ليالي ألف ليلة"
"أولاد حارتنا، أو يعمد الي التقطيع بالأرقام كما في"حكايات
حارتنا"، حيث تأحذ الرواية شكل اطار واحد جامع للأحداث والشخصيات، مقسمة الي
عدة فصول يحمل كل فصل منها حكاية أو حقبة زمنية أو حدث ومصير لاحدي الشخصيات، فنجد
حرافيشه مثلا مقسمة الي حقب زمنية متعاقبة كما في الملاحم الاغريقية(ربما يعود
لذلك سبب تسميتها بالملحمة اي القصص المطولة التي تحمل الينا أخبار أكثر من حدث
وبطولة.
ملحمة الحرافيش عدة "روايات صغيرة" يحوطها
اطار واحد..عدة أحداث تقع في نطاق حدث أوسع وأضخم..عدة شخصيات ملحمية تبدأ بعاشور
الناجي وتنتهي بعاشور الناجي..ولو أنني تركت نفسي للحديث عن "الحرافيش" ربما
خرجت عن غرض المقال، لكنني أمني نفسي بحديث مفصل عنها بذاتها ان شاء الله.
قد يلجأ نجيب أيضا الي الكتابة عن شخصيات بذواتهم وسرد
مصائرهم من عيني راو بعيد/مشارك كما في "المرايا"..ربما اجتمع الناس
–وأنا معهم-علي اطلاق لفظ المرايا علي هذا العمل كعنوان وكصنف أدبي أيضا، فلا نجد
من يقول"قرأت رواية المرايا لنجيب محفوظ" وانما نسمع دائما"قرأت
مرايا نجيب محفوظ" وهنا يمكننا القول دون خشية الاتهام بالمبالغة أن نجيب قد
ابتكر ايضا أصنافا أدبية جديدة علي الادب العربي.
وقبل أن تسارع الي الاختلاف معي عزيزي دعني أسألك عن
استحقاق هذا العمل لمصطلح"الرواية"..وسنخرج هنا عن غرض المقال قليلا، فلو
قلنا ان اسلوب السرد يرجع الي المؤلف وله مطلق الحرية أن يجدد او يبتكر، لكن مع
هذا هناك فنيات تحكم الرواية كما في اي صنف ادبي اخر وان اتسمت بمرونة أكثر..فأنا
لا اجد في مرايا نجيب اي شيء يجعلني اصنفها كرواية، فلا اطار يحكم الشخصيات ولا
الاحداث، ولا الاماكن او الازمنة-الا عيني الراوي
السؤال الثاني: كم مرة قرأت عمل مثل هذا-او كتبته- بعد
تاريخ كتابة نجيب لهذا العمل، وكم مرة حدث هذا قبلها!
لي تجربة مصغرة في هذا الشأن، ولم أستطع تصنيفها كقصة
اطلاقا..اذن هي شكل جديد لا يمت للرواية بصلة،
والآن: حاول أن تقرأ رواية "قشتمر" ومرايا
نجيب، وقم وحدك بالمقارنة وحاول التوصل للسبب الذي يجعل الاولي رواية
والثانية..مم..مرايا..ان أسلوب السرد واحد..لكن طريقة السرد ليست واحدة، وفيها –في
رأيي- يكمن سر الاختلاف.
والعجيب ان العمل علي هذا ممتع ولن تشعر انك خرجت منه
كما دخلت اليه؛فالمتبحر في عوالم نجيب يجد أن متعة تلقيه لا تكمن في صنف العمل او
فنياته بقدر ما تكمن في نواح اخري علي راسها ذلك الساحر الذي نتناوله اليوم:السرد
وفي هذا الاطار-اطار التجديد والتنويع في اساليب وطرق
السرد- يهمنا الاشارة الي "شيء عجيب" كتبه أديبنا علي هيئة رواية، وهو
حسب علمي الرواية الوحيدة من نوعها في العالم، وهو ما يدعي"حديث الصباح
والمساء" حيث اعتمدت الرواية علي شخصيات مرتبة وفقا للترتيب الابجديّ، وليس
تبعا للتسلسل الزمني المنطقي، والسامع البعيد لهذا الامر يستنكر وجود شيء كهذا ولا
يخال نفسه يطيق قرائته..لكن الحقيقة التي لمستها بعد حال كهذه هي انني استمتعت
أيضا بالتجربة المربكة والمديرة للرأس..فلذة الجدة تبقي براقة دائما.
طيب
لماذا يلجأ نجيب الي التنويع والتجديد وربما الابتكار في
اساليب سرده، مادام الحكي عنده ممتعا، ومادام يستطيع امتاع القاريء وجذبه بأقدم
أنواع السرد وأكثرها تقليدية كما في"الحب تحت المطر" "عصر
الحب" "حضرة المحترم"!
حين أفكر في هذا علي عمومه، أجد أن الكاتب يتمتع بذات
خصال قارئه، ومن الطبيعي أن يملّ وهو الكاتب أساليبه ؛فالكاتب يمل ويرغب في
التجديد مثل القاريء وربما-من حيث المنطق- أكثر. قد يكون لي كقاريء حرية العزوف عن
كاتب مللت أسلوبه، والاتجاه الي آخرين، لكن ماذا يفعل الكاتب اذا ملّ نتاج يده!
ما رأيكم!
أقنعكم الجواب!
بالطبع غير شافي، وقبل أن يجرفنا الي التساؤل عن أحقيته
في التلاعب بفكرة عميقة وقوية من أجل (مجرد) الخوف من الملل او الاملال، فانني أري
أن نجيبا لم ينجرف تماما خلف التجديد بما يجعله ينسي الفكرة وطبيعتها..فالمعني
دائما عند نجيب له الاولوية والاهمية المطلقة(1)
ولنعد ل(حديث الصباح والمساء) لنفهم
قد يقول قائل أن نجيب استخدم أسلوبا عجيبا قد ينفر
القاريء لمجرد التجديد..لكنني أري-ولعلك ستوافقني- أن الفكرة خدمت هنا أكثر بهذا
الاسلوب السردي العجيب؛ ففكرة الرواية قائمة علي مرور الزمن، وأن الحقيقة الوحيدة
في حياتنا هي أننا نولد لنموت، وهذا قائم ودائم الي أن يرث الله الارض-الصبح طفل
بريء..ومساه يبان تجاعيد..."(2) فاكرين!
هنا تظهر عبقرية المعالجة؛فالقاريء يشعر من الوهلة
الاولي أنه أمام ما يشبه "السجل الاحصائي" أو شيء كالتعداد الحكومي الذي
تقوم به عند حصر أعداد حي سكنيّ أو المراحل التي تتم لتتبع شجرة عائلة
ما..فالرواية كسجل قام المسؤول عنه بقيد أسماء المواليد والوفيات وتلك اللمحات القصيرة
والملحوظات العابرة-التي هي حيواتهم
وهنا يمكننا أن ندرك عبقرية الرجل في الجمع بين التجديد،
وايجاد ما يلائم الفكرة في الوقت ذاته مع الحرص علي طبيعة الفكرة وتوصيل
المعني...انها المعادلة الصعبة، وأنا اعتقد أنه فعلها. ويمكنك أن تقرأ "ميرامار"
مثلا وتطابقه بما قلناه، والرواية مكتوبة بأسلوب (تعدد الرواة)
وهو اسلوب كان جديدا حين استخدمه أديبنا. وقد استخدمه
كثيرا..والغريب أنه جدد في الاسلوب الجديد ذاته.(3)
- يبقي لنا الحديث عن (الحياد) عند نجيب ككاتب لا يعطي
القاريء حقه التام في اعمال عقله فحسب، بل يحصل أيضا علي حقه ككاتب من خلايا مخ
وأعصاب وذكريات قارئه، فضلا عن مشاعره.
كثيرا ما يضطر الكاتب الي توضيح وجهة نظره؛لأن لغته
وأدواته لا تسعفه ولا تخدمه في توصيل ما بداخله..وكثيرا ما نجد صوت الكاتب يعلو
داخل النص، فينسي فترة كونه فنان راصد، ويتخذ أدوارا أخري فيتحدث كخطيب أو ثائر أو
واعظ. وما أقبح أن أضطر ككاتب الي وصف شخصياتي علي غرار الطيب والشرس والقبيح.
وعكس هذا هو أكثر الاشياء التي أقدرها لاديبنا؛ حيث
يتناول شخصياته بحياد تام، تاركا لي الفرصة لاقرر، وحافظا للضعف الانسانيّ مكانه
ومتيحا للقاريء فرصة التأمل والحيرة، التعاطف..والاحتقار..ثم التراجع عن هذا
الاحتقار الي التعاطف..وهكذا
انظر ان شئت الي شخصيات رواية "الحب تحت
المطر" وأخبرني من وسط كل اشمئزازك ونفورك: علي من تحنق!..ومع من تتعاطف!
الجدير بالذكر هنا، أن هذه الميزة الجميلة لاديبنا والتي
ميزت فترة نضجه، لم يولد بها، لكنها جاءت بعد عدة اعمال تتسم بالضد..فالكاتب لا
يولد بكل الجميل لديه، وربما من حسن حظنا، أن عاش عقل وحس هذا الرجل، مارا بمراحل
ابداعية شتي، نضج عبرها.
هناء كامل
-------------------------
1) لا أحب أن أدخل في مقارنات بين نجيب وبين الأدباء
الحاليين، لكن يضطرنا لذلك ما نجده اليوم قبل بعض الكتاب من تيه المعني في النص، أو
تشعب الرواية الي أجزاء الهدف الوحيد منها هو الاستطراد، مما يأخذنا الي عوالم
ذاتية للمؤلف تختلط فيها المعاني، ليجعلنا لا نصل ف النهاية الا الي عدة أفكار
مختلطة ومتضاربة
2) الرواية قام بتحويلها الي مسلسل، السيناريست العبقري
محسن زايد، وقد نتفق او نختلف علي قيمة المسلسل، لكننا لابد متفقين علي عبقرية هذا
الكاتب في تحويل العمل الادبي الصعب الي مسلسل. فسيدرك القاريء ان السيناريست قد
قام بخلق مسلسل
3) يمكنك الاطلاع علي عدة أعمال نجيبية كتبت بهذا الاسلوب
في مراحل متعاقبة كمثل:ميرامار1967- أفراح القبة 1981-يوم قتل الزعيم1985 وبامكانك
عزيزي اجابة السؤال:كيف خدم تكنيك السرد، مغزي كل رواية ووجهة نظر كاتبها. كما
يمكننا ان نلعب لعبة لذيذة هنا بالتعويض عن اسلوب سرد الرواية بأسلوب آخر وملاحظة
تأثر المعني من عدمه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق