بدأت
علاقة نجيب محفوظ بالحياة السياسية منذ نعومة أظافره، فقد تأثر بميول والده الوفدية،
ورث عنه عشقه لسعد زغلول، كما ازكي هذه الروح الوطنية لديه مدرسوه الذين كانوا يشجعونه
هو وغيره من الطلاب علي الخروج في مظاهرات للمطالبة باستقلال مصر، لذا حرص نجيب محفوظ
علي الاشتراك في جميع المظاهرات التي قامت في تلك الفترة، راصدا أحداثها في روايته
الشهيرة "الثلاثية" وبخلاف اشتراكه في المظاهرات كان نجيب محفوظ عزوفا عن
إقامة أي علاقة مع المسئولين السياسيين،أو الاشتراك في أي حزب سياسي، إلا أنه استخدم
رواياته في نقد الواقع الاجتماعي والسياسي الذي عاشته مصر في هذه المرحلة ففي رواية
"القاهرة الجديدة" انتقد فيها فساد الطبقة السياسية الحاكمة وإهمال القضايا
الاجتماعية لصالح السياسية.
أما
عن موقفه من ثورة يوليو، فقد كان نجيب مناصرا لها في البداية، خاصة أن عددا كبيرا من
الضباط الذين قاموا بالثورة أمثال عبد الحكيم عامر، جمال سالم، وعبد اللطيف البغدادي،
كانوا يرتادون مقهي "عرابي" بالعباسية وهو المكان الذي اعتاد نجيب محفوظ
السهر به، فنشأ بينهم وبين نجيب وشلة المقهى نوع من الصداقة، لكنه اخذ عليهم غياب الديمقراطية،
وتعطيل الحياة الحزبية في مصر، بالإضافة إلي فردية الحكم وعسكرته، ففكرة الزعيم الذي
لا يخطئ كانت هي السائدة في تلك المرحلة.
لذا
اخذ نجيب محفوظ ينتقد زعماء هذه الثورة، فمن خلال كتابة "أمام العرش" حاكم
نجيب محفوظ حكام مصر بداية من مينا موحد القطرين إلي أنور السادات، فها هو «أوزوريس»،
رب العالم السفلى ورئيس المحكمة الأخروية، يحاكم هؤلاء الحكام، يدخر محفوظ بعضا من
ألذع نقده لعبد الناصر، وإن كان يسبغ عليه أيضا من آيات الحمد والثناء الشيء الكثير.
فنرى رمسيس الثاني، أعظم فراعين مصر قاطبة يقرن عبد الناصر بذاته في العظيمة فيقول
له: «كلانا يشعّ عظمة تملأ الوطن وتتجاوز الحدود». ولكنه أيضا يقرنه بذاته فيما هو
ليس من العظمة في شيء فيقول «...وكلانا لم يقنع بأعماله المجيدة الخالدة، فأغار على
أعمال الآخرين ممن سبقوه»، وهو اعتراف من رمسيس الثاني بما صنع من محو أسماء سابقيه
من على المعابد والمسلات ووضع اسمه محلها. وهو أيضا تعريض بما كان في عهد عبد الناصر
من إغفال حق ثورة 1919 وزعامة سعد زغلول وكفاح حزب الوفد من بعده برئاسة مصطفى النحّاس.
هذا طبعا إلى جانب إغفال الحق التاريخي لمحمد على في تأسيس مصر الحديثة.
ويستمر
الفراعين القدامى في توبيخ الفرعون الجديد فيقول له تحتمس الثالث: «على الرغم من نشأتك
العسكرية فقد أثبتّ قدرة فائقة في كثير من المجالات إلا العسكرية منها...» وهذه طبعا
إشارة واضحة للهزائم العسكرية العديدة في عهد عبد الناصر سواء في حرب السويس أو حرب
1967 أو الفشل في مواجهة الانقلاب السوري سنة 1961 أو الخسائر الفادحة في حرب اليمن.
ولا نملك هنا إلا أن نشعر بنبضات قلب محفوظ في هذه الكلمات، بالمرارة التي
يستشعرها كاتب وطني كان يأمل الكثير في ثورة 52 لكن أمله خاب، ومرارة المثقف الليبرالي
الذي عاصر خنق الحرية بيد من كان يأمل فيهم خلاصها. ومن هنا نلمس تردد أوزوريس قاضى
الآخرة قبل تزكية عبد الناصر للانضمام للخالدين فيقول «...قليلون من قدّموا لبلادهم
مثلما قدمت من خدمات، وقليلون من أنزلوا بها مثلما أنزلت من إساءات..».
صفاء سيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق