السبت، 15 يناير 2011

الارتجالة الرابعة، النص العاشر: برزخ


حين قالت جدتي لأمي ثالث أيام العزاء: "أبوك معي.. إنّه لا يفارقني لحظة".. حسبتها أمي جملة تقليديّة عابرة مما يقال دومًا في مثل هذه الظروف..
***
في يوم موتي الأول.. كانت الرهبة والجزع تملآن نفسي، إلى حدّ جعلني لا أفرح بلقيا من سبقني من الأحبة.. الأدهي على نفسي أني كنت أخشاهم..
***
دومًا كان الالتصاق لجدي هو فعلي المفضل، في الصباح الباكر ألتصق به ذهابًا إلى الصلاة، وفي الظهيرة على مائدة الطعام.. ووقت الغروب أنتزع منه تلفيعته ألهو بها جوار الركية التي أشعلها للدفء وغذاء نرجيلته، ما يحيرني اليوم هو أنّه لم يفعل أيًّا من تلك الأشياء..
***
كان قلقه شديدًا حين ماتت زوجته، ولم يجد في نفسه أيّ لوعة للفراق.. ترى، هل طال وهن النيف وسبعين عامًا قدرته على اللوعة والحزن!
***
حين قالت جدتي لأمي سابع أيام العزاء: "أبوك معي.. يأتيني على فترات مختلفة من اليوم.. صحيح أن هذا يؤنس نفسي، لكن كلما أتذكر أنّه لم يمت بعد.. يملؤني الجزع".
رافقت أمي الصمت للحظات ثم همست: "لا أعلم أنّ للأموات خوف..".
***
في يوم وفاة جدتي السابع أصبحت الشفقة على جدي هي السيد في كل وصل يجده ممن حوله.. أحاول كل يوم أن أكسر حاجز صمته فلا أصيب، يستغرقني الشوق إلى ركيته ونرجيلته، فأجمع ألاويح الذرة الجافة وأضعها في المنقد ليشعل منها نارًا، وأضع النرجيلة بجوارها، ولكنّه يتجاهل ذلك، ويظل على جلسته حتى آخر الليل..
***
في اليوم السابع لموت زوجته، كان قد نسي بالفعل أنّها ماتت.. يذهب إليها حين يستبد به الشوق، ويطفئ لوعته على فتاته التي ذهبت منذ عامين.. يجلس لساعات مع أصدقاء الصبا الذين انتهت صداقته بهم حين شبّوا جميعًا عن الطوق.. تختلسه أفكار عن أنّ القادم في الموت ثري بقدر مَنْ ذهبوا جميعًا.. يتمتم للا أحد: "سعيد هو مَنْ يحظى ببرزخ الأربعين يومًا..".


وليد خطاب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق