الأربعاء، 9 مايو 2012

الارتجالة الحادية والعشرون: الرحيل


عندما تصلك رسالتي هذه ـ حفظك الله ورعاك وسدَّد على طريق الخير خطاك ـ فأعلم أنني سأكون قد رحلت بشكلٍ أو بآخر...
لم أُحدثك من قبل عن جدي.. في الواقع أنا لم أقابله من قبل فقد مات بعد ولادتي بعامٍ واحد.. لكن ما سأقصه عليك من أخبارٍ عنه اعتبرها الحقيقة التي لا شك فيها. بدأ جدي رحلته منذ كان يعمل صبيّ جمَّال. كان يقوم بإطعام الإبل وتنظيف مخاولها والسهر بجوارها يحرسها من اللصوص وقطاع الطرق. كان مُدبِّرًا وضع القرش على القرش ـ أيام كان القرش عملة صعبة يحارب الناس من أجلها ـ حتى اشترى أول قيراط في البلد.. القيراط تبعه قيراط حتى صار فدانًا في ثلاثة أعوام كان يملك أكثر من عشر فدادين.. بعد أعوام قليلة كان من أثرياء القرية.. ثم من كبار الناحية.. كان جدي ساحرًا في كلامه برغم وجود لدغة في بعض الحروف.. كان طويلاً .. عريض المنكبين.. وبرغم أنه في عنفوان شبابه فقد راحت بوادر الصلع تظهر في مقدمة رأسه... تزوج من جدتي عن قصة حب حقيقية.. حب لا تعرف كيف وجد طريقه بين قلبين في أقاصي الصعيد وحيث الزواج أسهل ما يمكن وأصعب ما يمكن في ذات الوقت.. كان الراديو هو قناة الاتصال بالعالم الخارجي.. سمع ذات مرة أغنية تحت الشجر يا وهيبة للمطرب الشعبي محمد رشدي فقرر من ساعتها أن يُخصِّص فدانًا كاملاً من أجل تحقيق كلمات الأغنية والتي تصادف أن يكون اسم وهيبة هو اسم جدتي... في عام كانت الحديقة محط أنظار البلدة لبسوقها وجمالها.. كان جدي يملأ القفف بالبرتقال والمانجو والخوخ ويجلس على المصطبة الطينية أمام المنزل ويقوم بتوزيعها على الصبيان.. كان من الطريف أن تراه وهو يتجادل بلدغته المحببة مع طفل أبيّ لا يريد أخذ شئ لكن مع إصرار جدي يرضخ.. بشكلٍ أو بآخر كان جدي طرازًا مختلفًا من الرجال الذين لم يفسدهم المال. قام بالتبرع بقطعة أرض شُيِّدت عليها مدرسة القرية الوحيدة. كبُر أولاده وسافروا للخليج.. كانوا يرسلون له المال عامًا بعد عام ثم فوجئوا بأنه كان يضعه في شقوق البيت بعد أن يضعها في غلاف سميك من الورق. كانت زوجات أولاده يخبرونه بأن الورق سوف يتآكل بسبب الفئران وهوام الأرض، لكنه لا يكترث بقولهن... عاد أولاده ـ أعمامي ـ فوجدوا ثروة تنتظرهم مع أبيهم الذي لم ينفق قرشًا واحدًا.. بدأ جدي يتغير.. صار أصلع بشكل ملفت للنظر.. شاربه الرمادي الضخم.. عصاه ذات المقبض المعوج.. حمارته البيضاء التي تأتي له عندما يناديها.. تقف بجوار المصطبة وتحني رأسها في انتظار... صار جدي أيقونة القرية وأكدَّ هذه الصورة النورانية عندما مات أخي الأكبر.. في الواقع لقد غرق في الترعة...غربت الشمس وتحولت القرية ـ التي لم تدخلها الكهرباء بعد ـ إلى شعلة من أنوار الكلوبات والمصابيح الغازية.. وقف جدي.. أشار إلى بقعة عميقة بعصاه وقال:
ـ ستجدونه هنا..
قفز رجلان وبعد دقائق صعدا يحملان جثته.
اكتنف الحزن القلوب.. بعدها بأشهر كانت والدتي على السطح تنشر الغسيل.. كان جدي يجلس مستقبلاً القبلة في شرود.. فجأة راح ينادي على شخصٍ ما.. قالت أمي وهي تضحك:
ـ من تنادي؟
أخبرها بأنه اسمي.. ظنت أنه يتحدث بلا تركيز.
في العام الأخير قبل موته صار جدي مولعًا بتعلم القراءة والكتابة.. كان يستأجر أفضل مدرس بالقرية، وكان على هذا الأخير أن يحتمل عقلية رجل في الستين.. هناك إشاعات تؤكد أنه تعلم القراءة والكتابة وأخرى تؤكد أنه لم يفلح.
مات جدي تاركًا عصاته وحمارته وقلنسوته وصورة عملاقة له معلقة على الجدار..
في شقٍ من شقوق البيت القديم وجدت كتابًا بخط اليد.. يتحدث فيه جدي عن نفسه.. عن السر الذي يربط بيني وبينه.. أنظر في المرآة فأجدني أصلع الرأس.. ذو شارب رمادي...
كان عليَّ أن أُنفِّذ الإرشادات بدقة..
الكل يقول بأنه مات ودُفِّن..
لكن جدي يؤكد بأن هناك طريق أخرى للرحيل وسط هذا الواقع الكئيب مضطر لتنفيذها..!
طُردت من العمل على الرغم من أني أشرف واحد في تلك المؤسسة.. خانني أقرب الناس إليَّ.. أحاطت بيّ الإشاعات حتى كادت تخنقني.. اضطررت للانسحاب.. لكن هذا غير كاف.. لا بد من تنفيذ طريقة جدي.. لعلي أصل إلى ما أريده.. أو هذا ما أتمناه..

عارف فكري عن "انسحاب البرادعي"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق