السبت، 5 أكتوبر 2013

فن الصورة لدى نجيب محفوظ


        يمكن القول أنه بين الفن التشكيلي والأدب منطقة مشتركة، فهما لغتان مختلفتان في القواعد والأدوات، لكنهما يشتركان في أن قلم الكاتب وريشة الفنان بينهما العديد من الرؤى التقاء في الأعمال الإبداعية والمواقف السياسية ، وهذا ما يؤكد أن الأديب والفنان يمكنهما الانطلاق من أرضية واحدة هي البحث عن الجديد داخل النفس الإنسانية، فالأدباء مثلهم مثل الرسامين لهم عادة لا تقاوم في تخليد كل مكان سكنوه أو عبروه، حتى لو كان مقهى صغير كتب فيه يومًا، وقد تميز محفوظ عن غيره من الأدباء، بأن له ذلك الخيال البصري الملهم، القادر علي تجسيد الشخصيات والأماكن، خاصة الحارة المصرية التي ارتبط بها ارتباطا وثيقا، فجعله خلفية لكثير من أعماله الأدبية.
ومن أعمال نجيب محفوظ الكثيرة التي التقت فيها الكلمة بالصورة "أحلام فترة النقاهة" التي كتبها بعدما توقف عن الكتابة لفترة طويلة، تجلت خلالها رمزية الألوان والتشكيل البصري على النحو التالي.[1]
أفق داكن وسحابات خضراء، بساط أخضر، قط فرعوني يسير هادئا بثبات، أرجله القصيرة تتحرك فوق البساط الأخضر.
طيور بيضاء تجتمع فوق البساط الأخضر هي طيور ممتلئة سمينة أقرب شكلا إلي الغنمات منها للطيور.
جسد أخضر لفتاة في حالة تجانس مع البساط، جسد شاب وشعره أسود كالليل يطير، ويد تحتضن زهرة حمراء تضفي بهاءا ورونقا علي وجه برتقالي مجرد الملامح والتفاصيل، قمر مضيء بالأصفر والأحمر يحتل موقعا يربط الفضاء الداكن بزرقته بخضرة البساط، وشذرات من الأبيض المشوب بالبني تحيط جسد الفتاة وتحول البصر إلي شجرات أربع في الأفق تؤكد العلاقة بين فضاء وبساط.
        كما كان عالم نجيب محفوظ ملهما أيضا لكثير من الفنانين التشكيلين، سواء الذين صاحبت رشتهم أعماله الأدبية، فكانت ترجمة بصرية لإعماله، أمثال الفنان حسين فوزي، حين صاحبت رشته تجسيد فصول رواية " أولاد حارتنا " التي نشرت بصحيفة الأهرام في 100 رسم على مدى ما يقرب من العام "حفلت اللوحات بالعديد من النغمات بالأبيض والأسود .. تنوعت فيها الإيقاعات مع التحليل المعماري الذي يعطى الإحساس بالكتلة ويحفل بالتنوع والثراء"
ولأن عالم نجيب محفوظ الروائي يزخر بفنيات التشكيل والرؤية، فقد جذب معه فنانين كثر ليلتقيا الأدب مع التشكيل ولا شك أن من أهم الأعمال الفنية التي تقابلت مع عالم نجيب محفوظ ما قدمه الفنان سيف وانلى من ترجمة تعبيرية لشخوص " المرايا "، التي صاحبت الرواية حينما كانت تنشر بمجلة الإذاعة والتليفزيون عام 1971.
كما تألقت أعمال نجيب محفوظ أيضا في لوحات عديدة لفنانين لتشكيلين. فعندما نقرأ خان الخليلي أو زقاق المدق وبين القصرين أو نطوف (بدنيا الله) نجد في تصوير محفوظ ما نراه في أعمال الرائد يوسف كامل، الذي ظل قلبه معلقا بين القاهرة التاريخية والشعبية بتلك المنافذ والكوى والدروب والبوابات والسلالم الشاعرية العتيقة فصور بيت البكرية والباب الأخضر وبوابة المتولي وغيرها من تلك المسافات والمساحات المسكونة بلمسة الزمن.
كما جاءت لوحات فنان الباستيل محمد صبري للقاهرة الفاطمية بأبوابها وبواباتها في أكثر من 200 لوحة. وفي مقهى نجيب محفوظ بخان الخليلي وتطل علينا 16 لوحة للفنان صبري تمثل شارع المعز وبوابة الفتوح وبيت السحيمي وباب زويلة والجامع الأزرهر، وكلها تمثل مسرحا لحكايات محفوظ الروائية والقصصية. كما يتصدر المكان بورتريه للكاتب الكبير من إبداع صبري أيضا وقد صوره له بعد نوبل.. وكان يذهب إليه يوميا صباحا بمقهى علي بابا حتى انتهى منه.
ونجد حميدة كما وصفها محفوظ بملامحها ولون بشرتها وسحر عينيها، تكاد تطل من لوحات محمود سعيد بكل أوصافها.. وليس غريبا أن الموديل المفضل عند محمود سعيد الذي ظل يرسمه طوال حياته يدعى حميدة .
كما ارتبط الفنان- جمال قطب بعالم نجيب محفوظ، فقد تصدرت رسومه أغلفة رواياته وقصصه القصيرة من بداياته الأولى وحتى أعماله الأخيرة في أكثر من خمسين عملاً، وقد جسد هذا العالم الذي يمتد من الواقعية التاريخية والفنتازيا كما في روايات محفوظ الأولى، إلى الواقعية الطبيعية والفكرية والواقعية النفسية كما في السراب، والواقعية الرمزية كما في زقاق المدق إلى العبث واللامعقول كما في تحت المظلة.
وقد صوره جمال قطب في أكثر من بورتريه من بينها نجيب يبدو مبتسماً متأملاً وحوله شخوصه العديدة أبطال رواياته، تنوعت الصورة الشخصية لمحفوظ من فنان إلى آخر مثل الصورة التي صورها له صبري راغب والتي جمعت بين الخفة والصلابة بلمسات قصيرة، كما صوره جمال كامل في بورتريه استحضر فيه شخصيته البسيطة المتواضعة فقد كان نجيب موضوع بورتريه لكثير من الفنانين الآخرين أمثال مصطفي حسين وغيره الكثير.
صفاء سيد 




[1]  حامد أنور: بين التشكيل والأدب (التأثير.. والتأثير المضاد)، مجلة التمدن، 7/6/2008.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق