الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

القصة الفائزة بالمركز الثالث في مسابقة مغامير للقصة القصيرة


اختبار الصابون

          أرجوك لاتنظر إلىّ بشفقة ، لستُ تعيسًا ولامظلومًا ولابائسًا ... فقط أفعل هذا لأنه يريحنى ولأنى أريد أن أفعل هذا .. فبعد كل بضع ساعات من العمل المتواصل فى ورديّة المصنع أذهب لصنبور المياه وأغسل ذراعىّ بالصابون .. أغسلهما ببطء وأنا أغمض عينىّ واُركّز احساسى لأصل لمواضع الألم ... مواضع الجروح.
          فتح وغلق المحابس والبوابات ورفع وخفض أزرع التشغيل لمكينة عملاقة كهذه يسبب كل مرة الخدوش والجروح الصغيرة ... اكتشفها باختبار الصابون هذا الذى يرسل إشارات حارقة بمواضع الألم ، فأعالجها بزيت المَكَنّ.
          أكرر مرة أخرى ألاتعطف علىّ كأنى ضحية .. زيت المكن الذى أدلك به مواضع الجروح والكدمات من نوع ممتاز .. يشعرنى براحة كبيرة لمّا استخدمه .. ولم أفكر فى بديل لأنى لاأريد.
          فى السابق كنت أشعر بتأنيب ضمير وأظن نفسى مختلسًا ، هذا الزيت يوفره المصنع لأضعه بين آن وآخر فى مواضع احتكاك التروس –بالمكينة التى أعمل عليها- مما يمنع أو يؤخر تآكلها ، لم يُصنع أو يصرف لجروحى. ثم توصلت لفكر أقنع ضميرى .. .هذف الزيت هو جعل المكينة تعمل أطول فترة ممكنة بلا تآكل فى أجزاءها ... وأنا قد توحدت مع المكينة –بسبب طول عشرتنا- وصار مصيرنا ومزاجنا مشترك ... لذا لامانع أن أداوى نفسى بدواءها كى نستمر نعمل ونعمل ... 
          لا أتذكر متى بدأت العمل على هذه المكينة ... كنت صبيًا مراهقًا لمّا انضممت لعمال المصنع ، لم أكن إلا مساعدًا تتملكه الرهبة أمام هذا الكيان المعدنى العملاق ... ثم قليلًا قليلًا أنست لها واحتوتنى ... وإذا بالوحش المعدنى الأصم بقلب أم وروح منضبطة نقية لاتعرف الخبث والخداع.
          تم تجديد كل وحدات المصنع أكثر من مرة بغيرها تحركه العقول الإلكترونية الجديدة –بدلًا من الأزرع البشرية- وبخامات مستحدثة –يقولون- إنها أفضل من الصلب بكثير. وفى كل مرة كان يعرض علىّ المدير –وهو مالك المصنع فى نفس الوقت- أن يتم الاستغناء عن هذة المكينة بأخرى أحدث ، وأن أنال ترقية يُذكيها الامتنان لطول عملى وإخلاصى بالمصنع .. فأرفض. هذه المكينة هى أمى وأبنتى وحبيبتى ..
     ترهقنى جسديًا وذهنيًا ولكنها بهذا تعلن إنها تحتاجنى واحتاجها. لم يفهم أبدًا طبيعة علاقتى معها .. ولكنه احترمها على أى حال احترامًا لى بصفتى أقدم العُمال وأكثرهم تفانيًا.
          أن أكون أكثر البشر تفانيًا فى عملى هذا ليس لصلاح فىّ ، بل لأنى لاأفعل فى حياتى شئيًا إلا هذا العمل. ليست لى أسرة .. فلستُ متزوجًا ولن أتزوج ... لماذا؟ ... لأنى لاأجد إجابة على السؤال العكسى الذى هو لماذا أتزوج؟ .. لأجد شريكة أحبها وتحبنى وأنجب أولًا يحملون أسمى ؟ حسنًا .. أقولها صريحة بلاخجل .. لاأعرف أن أحب أمرأة على وجه الخصوص ... أحب كل البشر .. أحب كل الأطفال ، وأخدم كل من استطيع أن أخدمه بكل طاقتى ، ولكنى لاأعرف –ولاأريد- أن تكون لى خاصتى.
          مرتبى الذى بدأ ضئيلًا ونما ببطء شديد طوال هذه السنوات –كسنديانة ضخمة لاتلحظ أبدًا نموها- أنفق أغلبه على أطفال الحى وأبناء أخوتى والفقراء والمحتاجين ، وأشعر ببهجة أعرف أنها الأعظم فى العالم ورضى يجعلانى لاأتمنى شيئًا مهما ضغطتُ على خيالى لأعتصر رغباتى الكامنة.
     سأم الملحون علىّ بحججهم الأزلية أن أتزوج وأكوّن أسرة ، وكذلك الأشقياء الذين حاولوا إغرائى بالحب والهوى و وجوب أن ترافقنى أنثى لأعرف طعم الحياة كرجل. أرى حياتى كاملة وأرانى أسعد البشر هكذا كما أنا ... أنا طائر بطريق يعرف أنه ينتمى لمملكة الطيور ومع ذلك فهو لايطير وليس لديه رغبة فى الطيران ... سيستكمل حياته هكذا يستمتع بمذاق الأسماك الصغيرة التى يُحسن اصتيادها وإن بدا وضعه مزريًا لباقى الطيور الجارحة ساكنة الجبال وآكلة الفرائس الدسمة ذات الدم الحار.
          شيئًا واحدًا لم أشرحه لأحد لأنى أعرف أنه لا أحد سيفهمنى. ألم يغزو نفسى مع فيض الاحساس بالغبطة والرضى. مرارة تصعد لحلقى مع كل وجبة حب اصنعها وألتهمها مع آخرين ... لماذا أبكى ليالٍ كثيرة بلا سبب ؟ ولماذا تنتابنى نوبات خوف من مجهول لامبرر لها ؟ إذا شكيت على سبيل التنفيس أعاد السامعون نصائحهم المتهرئة عن وجوب الحياة الأسرية والصحبة الدائمة وغيرها ... ولكنى أعرف أن لآلامى أسبابًا أخرى ... ماهى ؟ 
***
           لستُ الأسعد فى العالم ... بل الأتعس. بعد طول تفكير وانشغال توصلت لسبب ألمى ومرارتى الغير مبرران : روحى مخنثة بالجروح التى يتسرب منها كل فرح ورضى. اكتشفت هذا دفعة واحدة وأنا اُجرى اختبارى اليومى لجروحى الجسدية بالصابون. كان عندى فسحة من الوقت فأغضمتُ عينى وأغلقت حواسى ومررتُ كل مشاعر الحب التى عندى على قلبى .. فإذا بى اكتشف جروحًا قطعيّة عميقة نازفة فى نفسى! .. جرح افتقاد ووحدة ، جرح شفقة على الذات ، جرح سأم ورتابة ، جرح عدم جدوى ، جروح وخيانات  وتخليات سابقة ظننت أنى كنت قد غفرتها ، جروح اشتياقات مكبوتة ... وغيرها وغيرها.
          عرفت أنى مهما ملئت فراغى الداخلى بالحب وأعماله فروحى الواسعة لاتسمح إلا بالتسرب لكل المعانى الجميلة خارجًا ... تتبخر مُحدثتًا فى خروجها ذلك الألم وتلك المرارة التى لم أكن أعرف لهما سببًا. ...
أنا تعيس.
***
          أنا الأسعد فى العالم ... أنا الأكثر بهجة من طفل بلعبة جديدة كل يوم ... أنا الأكثر امتنانًا لجروحه وضعفاته .. انتظر! .. اسمعنى أنا لستُ مختلًا .. ارجو أن تفهمنى .. حسنًا سأحكى لك الموقف وأترك لك الحُكم..
          كنتُ جالسًا فى ورديّة صباحية أمام وحشى المعدنى الصموت شاردًا ، شاعرًا بكل تعاسة الدنيا تتكثف فى خلاياى وكل أرواح الملل تحلق حولى فى كل الاتجاهات .. فإذا بجرس إنذار الخطر  يضرب فجأة ! ... تمالكت نفسى ونهضتُ لأبحث عن موقع الكارثة ... أنا الأقدم هنا والأوفر خبرة .. لايصح أن أهرب لأنجْ بحياتى ، بل أن اتعامل مع الخطر لأقلص الخسائر فى المادة والأرواح .. من طول خبرتى أعرف أن الخطر مصدره الرئيسى المبتدئين .. يوجد فى الوحدة التى تجاورنى مباشرةً عامل جديد .. هل عنده المشكلة ؟
          أدخل وحدة تركيب أنابيب غاز اللحام فأوقن صحة تخمينى .. صوت عامل يستغيث .. أنزغ قصيمى القطنى الذى ألبسه تحت "العفريتة" واربطه على وجهى وأدخل.
          أتسمّر منبهرًا ! ... هذا العامل الغض شك فى أن أحدى الأنابيب تعانى من تسرب فى صمامها بعد أن قام بتركيبها .. فقام بتجهيز الرغوّة المخصصة لفحص التسرب ووزعها على رأس الأنبوبة ... وإذا فقاقيع الصابون تصعد للجو .. التسرب كبير ومن أكثر من موضع ... الفقاقيع تملأ المكان .. هل رأيت من قبل فقاقيع الصابون ؟ أما عنى فبالتأكيد رأيتها قبلًا ولكنى شعرت بحالة جعلتنى أراها لأول مرة !
          كيف هى جميلة هكذا ! ... تعكس عليها الأشعة القادمة من النوافذ فإذ هى تتلألأ بألوان قوس قزح .. تتهادى برقة لأعلى .. كيف هى كاملة الاستدارة هكذا ؟؟ .. لماذا هى متباينة الأحجام هكذا ؟؟ ..كيف يدخلها الهواء ويغلق عليها من داخلها بابًا فلا تميز فتحته ؟ .. مَنْ ينتج غشاءًا رقيقًا بهذا التجانس وعدم التباين فى السُمك ؟ .. ما اروع هذة الشفافية !
          أسئلة كثيرة تتقافز كأصابع تلاميذ فصل أمام سؤال سهل .. ولكنها ليست سهلة ، تفصلنى بغلاف من البهجة عن الكارثة التى أنا فيها –و"فيها" وضعًا لامجاز فيه- كأنى فى أحدى هذه الفقاعات.
        يتعالى صراخ العامل الشاب مولولًا ومستعطفًا وهو يضغط على أزرار الطوارئ ويحاول معالجة الوقف بلا جدوى ... أنظر إليه وابتسم ايتسامة لم ابتسمها منذ سنوات طفولتى الأولى .. أسير إليه بهدوء .. والمس فى الطريق فقاعتان بأصبعى فتزولان كحلمىّ يقظة .. واحدة منهما أضطررت أن أشب على مشط قدمى لأطولها إذ كانت قد ارتفعت جدا ...
          وصلت إليه فسحبته من كتفيّه بعيدًا .. أغلقتُ كل الصمامات فى الحجرة وفتحت كل منافذ التهوية .. فصلت الأنبوبة المعطوبة بصمامها ورفعتها على كتفى .. جريت بها من سكة الطوارئ للساحة الخلفية ... وهناك ألقيتها فى حوض الكيماويات المُعد لمثل هذة الحالات.
          كان هذا الشاب يجرى ورائى مهرولًا وعلى وجهه كل معانى الذعر ، ولمّا رأى الوضع قد استقر وزال الخطر سقط على ركبتيه منهارًا فى نوبة بكاء هستيرية.
          وجدتنى أنا أيضًا أبكى ! ... أبكى من الفرح .. استشعرت دموعى كالرزاز الخفيف الناتج عن انفجار فقاعة الصابون ... أشعر بانتعاش واندهاش .. أقف أمام الشاب المنهار وارفعه من كتفيه ليقف ... احتضنه بقوة ليكمل بكاءُه وأنا اربت على ظهره.
          لماذا مواطن الألم فى روحى مأساة ؟؟ .. إنها نفسها مولّدة البهجة .. من كل جرح تخرج فقاقيع ملآنة بالحب .. وكل حب ينتج نوع الحب الخاص به ... فافتقادى للأبوة ينتج عنه عطف على كل الأطفال اليتامى أو حتى ذوى الآباء. ونمط حياتى الرتيب الهادئ ينتج عنه خدمات مجنونة مضنية لايقوم بها إلا متطوع بصفاتى ..

          كل ألم مررت به أصبح خط إنتاج لمضادات وموانع لنفس نوع الألم .. استطيع أن أسمع مهمومًا يشكو لساعات متصلة باهتمام وانباه حقيقى لأنى أعرف ألم أن تشكو لمهموم مشغول ... لا أتطوّع بتقديم الحلول للبشر من حولى لأنى أعرف أنهم ليسوا معدومى النصائح بل مفتقرى آذان صاغية ...
          تتداعى إلى نفسى أشياء كثيرة أفعلها بتفرد ، لم أكن لأفعلها لو لم أكن مُجرَبًا ومُجَرِبًا وجامعًا لكل هذه النتؤ فى قلبى ... ربما لو كنت محصنًا مترفعًا عن التجارب لظل قلبى  أصمّ عطنًا لا منافذ فيه .. لدخول مايملأه ، أو الخروج للمشاركة ... الآن تسرى منه وإليه الحياة.
          أبعد العامل عنى بطول ذراعى واُربتُ على وجنته بحنان ابوى ... "لاتخف .. كلنا تعرضنا فى أول احتكاكنا بالعمل لهذه المصاعب .. وأنت تعاملت مع الموقف بطريقة مثالية –ستكافأ عليها- باكتشافك العطب وضرب جرس الطوارئ فى الوقت المناسب ... والآن عد إلى عملك حتى لاتعطل أكثر ولك منى تذكية عند المدير".
          أضربه برفق على كتفيه ليذهب فيفاجأنى بقبلة على يدى وهو يقفز من السعادة ولاينظر رد فعلى بل يذهب مسرعًا. أقف وكلى عجب من اختبار الصابون هذا الذى تعامل مع جسدى ونفسى مرات ... وكشف لى أبعادًا فلسفية وروحية لم يكنْ لأرقى الحكماء والعلماء أن يعرفوها !.
..
كارولين نبيل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق