الخميس، 10 أبريل 2014

القصة الفائزة بالمركز الثاني في مسابقة مغامير للقصة القصيرة (الدورة الثانية)

حكاية رجل  الصحراء الذى اختار بديله قبل أن يموت

في منام رأى (عمر عبد المنجي) أباه يدعوه كي يأتي، تكررتْ المنامات في السنة الأخيرة فتيقنّ من دنو الأجل، خمسة وستون عاما زادته وقارا ووضاءةً وصبرا، كلُّ رجال العائلة ماتوا دون أن يمسهم سوء، ماتوا بضربة واحدة، جميعهم يتبعون قانونا ضمنيا، إذا تخطّى أحدهم الخمسين توقف عن تدخين السجائر والكيوف وعن أكل المسبّك وما يطُبخ بسمن.
فتنته المدينة، مخالفا لعادة رجال العائلة، تلفظهم الصحراء بعدما تخشّن جلودهم وترقق أرواحهم، تعلمهم الصبر، ويعلمهم الآباء أسس التجارة والمعاملات، يفضّلون البُلدان النائية على أطراف المراكز والمدن الكبرى، يكفي أن يرى أحدهم الآخر ليعرف أنه من ذات العائلة، أو يسمع اللقب في نهاية الاسم.
هنا الناس كثُر، والتجارة تروج أسرع، ظلّ محافظا على التقاليد في كل شيء، حتى شكل المحل لم يتغيّر، محل العطارة الواسع البسيط، رفوف وأدراج  لم يُكتب عليها اسم ما تحويه، لا زوجة له ولا أبناء، (هديل) فتكتْ بها الحُمّى، (محمد) مات أثناء نومه، ماتوا بهدوء، لم تكن (زينب) قوية مثله فماتت كمدا.
يتناول إفطاره ويشرب القهوة المغلية، يتصفح الجريدة ولا يقرأها، ثم يذهب إلى المحل، تلك عاداته التي لم يغيّرها على مدار عمره إلا قليلا، يفتح (صبحي) المحل في التاسعة، يرشّ الماء، يستفتح اليوم بسورة الواقعة، ثم يأتي الحاج في العاشرة، يفتح السجلات، يراجع ويدوّن، لا يشكّ في أمانة (صبحي)، ولكن هكذا يستقيم الأمر.
(صبحي) يبيع للزبائن بعين وأخرى على الحاج، مرّتْ سنوات على وفاة الأحبّة، يشعر أن شيئا ما قد تغير في الرجل منذ رحلوا رغم مظهره الصلب، وضاعف قلقه طلب الحاج في الفترة الأخيرة.
منذ شهور تعلل بتعبه وبعدم قدرته على الاستمرار، يريد أن يتقاعد ويعود إلى القرية ليموت هناك، قال له: "خذْ الوكالة يا صبحي"، هكذا دون مقابل، وقال أيضا "اعتبرها مكافأة نهاية الخدمة مثل موظفي الحكومة"، رفض شاكرا وقال: "يا حاج انت الخير والبركة وربنا يديك الصحة ويبارك في عمرك"، قال صراحة – وهو صادق – إنها حِمْل سوف يثقل كاهله، وهو لا يضمن نفسه، قد ينوء بها فتضيع ويضيع معها.
كل ما يريده الحاج (عمر) أن يعود إلى بلدته حاضرة الصحراء، يريد أن يموت هناك، وسط الأهل، السابقين واللاحقين، في زيارته الأخيرة في العيد، وقف على التلّ العالي المطل على المقابر، رأى موقعه من علٍ، رأى الأرض الصفراء النديّة، قريبا سآتي، هكذا حدث نفسه.
على المقهى قابل الأصدقاء كما يفعل كل خميس، أخبرهم أنه في حاجة لشاب ليعمل عنده، (صبحي) تعب، والوكالة تحتاج شخصا آخر ليسانده، بعد حين توافد إليه شباب كثيرون، من نظرة واحدة يعرف هل يصلح أم لا، يقابلهم بابتسامته الودودة الطيبة، يحادث طالب الوظيفة قليلا، ثم يقدم له ورقة يكتب فيها اسمه وعنوانه ورقم هاتفه، و(صبحي) يتابع متوجسا، يخشى من الآتي.
بعد أشهر وجده، شاب من بلدة نائية أقصى شمال المدينة، جاء من طرف الحاج (مسعود)، توسّم فيه خيرا واتصل به، سمع (صبحي) المكالمة، فأنهى ما كان يفعله، ووقف أمامه، رفع الحاج عينيه وقد لاحظ قلقه ، فقال بابتسامة ود:
-                   خير يا صبحي ؟
-       كل خير يا حاج . بس معلش لو مفيهاش إساءة أدب مني . اللي جاي ده انت عارف أصله وفصله ؟ ضامنه يعني ؟
-                   يا ابو هبة الاصل الطيب بيبان
-       يا حاج انا مش قصدي . انا لو عليا اعمل اللي تؤمرني بيه . بس انا قلقان م اللي هييجي ده ومنعرفش عنه حاجة
-                   انت الخير والبركة يا صبحي . متقلقش انا باعرف اختار
لما رأى صبحي ابتسامة الحاج تتسع ورأى نظرة الرضا تملأ عينيه تأكد من أنه يعي ما يقول.
وضع الحاج (عمر) تصورا كاملا لما سيكون خلال الأيام القادمة، وكان له ما أراد، في البداية أشار على (سليمان) مستخدمه الجديد أن يؤجر شقة صغيرة قريبة من السوق بدلا من السفر يوميا للقرية، ففعل، يفتح المحل مع (صبحي) ، ويفعل ما يُطلَب منه، و(صبحي) يتابعه بنظرات قلقة متفحصة، لم يكن يريد شيئا لنفسه، فقط يخاف أن تنهار الوكالة.
يأتي الحاج (عمر) في ميعاده، يراجع ويدوّن، ينظر للفتى خلسة برضا، تركه تائها مضطربا في أرجاء المحل وسط الأدراج والرفوف والبراميل، الفتى قليل الكلام، يتعلم سريعا، وإن لم يجد ما يفعله – وهي أوقات قليلة - جلس في ركن ينظر شاردا إلى الشارع.
في نهاية يوم صاخب، والإرهاق باد على ملامح (سليمان)، ناداه الحاج وسأله إن كان يعرف ما تحويه الأدراج، فقال إنه يعرف ما تحويه الأدراج والرفوف الأمامية فقط، أوقفه في منتصف المحل وطلب منه أن ينتبه جيدا، وأخذ يشير ناحية الأدراج المغلقة ويعدد ما بها:
ينسون ، شمر ، بردقوش ، حلبة ، درة عويجة ، فول ، عين العفريت ، شبّة ، حجر خفّ ، مريمية ، شعير ، خروب ، تيليو ، ورق جوافة ، حلفا ، عرق سوس ، تمر هندي ، علف بادي ، علف ناهي ؛ ثم أشار إلى البراميل: طحينة حمرا، طحينة بيضا، زيت زيتون، زيت حار، ظل يعدد الأسماء حتى انتهى، وتركه زائغ البصر، محمر الأذنين، فاغرا فاه، يلهث من فرط التعب.
بعد شهرين ناداه من وسط الزبائن وقال دعْ (صبحي) يتكفل بالأمر، أشار إلى الرفوف في نهاية المحل وسأله عن ما تحويه، فاضطرب، نسيَ الأسماءَ وتلعثم، أشار إلى أدراج أخرى وأعاد السؤال، فأجاب خطئا، ربّتَ الحاج على كتفيه وأمره أن يعود إلى العمل.
بعد عدة أشهر فعل ذات الأمر، وكلما أشار إلى درج أجاب (سليمان)، سأله عن الجرد والحصر، عن الوصفات، علاج الصدفية، السعال، النقرس، ماذا تأكل النفساء مع الحلبة؟، ماذا يشرب العِنّين ليعود سيرته الأولى؟، علاج الحسد والعين؟، لم يتركْ سؤالا بلا إجابة، ابتسم الحاج ، وعاد إلى مقعده راضيا، هكذا آن له أن يستريح كما أراد.
في صباح يوم من أيام إبريل، وجد (صبحي) رسالة مفادها أن الحاج ترك كل شيء لـ(سليمان) مستخدمه الجديد، البيت الكبير بمتاعه القليل والوكالة، وهو قد عاد إلى بلدته ليتم ما تبقى له من عُمر هناك.
اضطرب أهل السوق، ما عهِدوا في الحاج (عمر) قلة عقل ولا طيش، لابد أن الكبر وصدمات الفقد المتعاقبة جعلاه يخرف، وقال آخرون كيف يغرر (سليمان) ابن الأمس بالحاج (عمر) التاجر المحنّك، حتى (سليمان) نفسه ارتبك من هول ما حدث.
اجتمع كبار السوق، وذهبوا إلى البلدة رغم المشوار الصعب، يريدون أن يستفسروا عن السبب، تفرقت آرائهم شططا، وقال البعض، ربما قتله (سليمان) وكتب الرسالة وأخفى الجثة.
وصلوا البلدة النائية قبل انتهاء الأربعين، حكوا ما حدث لأهله، وبما أن الرجل توفيَ، فلهم أن يرثوا كل شيء، فقالوا أن لا شأن لهم، هو حقهم لكنهم ينفذون وصيته، فقد أخبرهم قبل وفاته بأيام بما حدث وقال أنه ترك الوكالة والبيت لرجل أمين، وهم لا يحبون صخب المدينة، فعاد التجار يضربون كفا بكف.
غاب (سليمان) عن الوكالة عدة أيام بعدما عرف خبر الوفاة، ذهب بعضهم إلى شقته الصغيرة ظنا منهم أنه مات، كسروا باب الشقة فوجدوه جالسا على السرير دامع العينين مذهولا، يرفض أن يأكل أو يشرب.
بعد حين تحسنت حالته كثيرا، وإن ظلّ به مس من ذهول، تبدلت روحه إلى الأبد، عاد يدير الوكالة بدقة ومهارة كما فعل سلفه، يحسن معاملة (صبحي) والمحيطين رغم شكوكهم حتى بعد حين، لكنّ شيئا ما قد تغيّر فيه، وفي يوم عاد (صبحي) من صلاة العشاء، وجد المحل خاليا، بحث عنه فوجده في المخزن يبكي ويكلم نفسه ويقول بمرارة : "ليه ده انا كنت باتحمى فيك".

مصطفى محمود عبد ربه




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق