الأحد، 13 أبريل 2014

القصة الفائزة بالمركز الأول في مسابقة مغامير للقصة القصيرة (الدورة الثانية)

القصة إهداء إلى روح الطفل "عمر صلاح" .. الطفل بائع البطاطا الذى توفى برصاص الشرطة.

"جِدر بطاطا"


     بردٌ .. بردٌ .. لا استطيع أن احتمله، متى سوف أموت أو أفقد الوعى من احساسى بالبرد ؟؟ .. لم يمر علىّ شتاء أشعر فيه "بآلام البرد" كما فى هذا العام .. قدماى وكل عظامى يعذبهما ألم من نوع خاص .. تخطر لى خاطرة أن أهل الجحيم هم الأوفر حظًا .. إن آلام الاحتراق ربما تكون أهوّن مما أعانيه الآن ، بل وأكثر .. أن الدفء حتى الموت أفضل للقلوب من الموت تجمُّدًا. هكذا البشر من جهة آلامهم .. الكل يظن أن ألمٌه هو الأفظع ، وأن ألم الأخرين مُحتمل عما يعانيه .. أتذكر أنى عندما كنت أعانى من الصداع المُزمن كتبت دعاء أن يرحم الله كل مصابى الصداع حول العالم ويرحمنى .. أو يبتلينا جميعًا بأى وجع أخر فى أى مكان فى أجسادنا وليدع رؤسنا سالمة، إذْ هى جعبة أفكارنا ومشاعرنا ولوحة تحكم أجسادنا. الآن أشعر أن البرد هو الأسوأ على الإطلاق رغم أنه ليس مرضًا من الأساس!
لماذا أشعر بالبرد الآن أكثر من أى وقت مضى؟ هل لأنى أخيرًا أدركت واعترفت أنى بالحقيقة "عريانًا"؟ .. أجل ، عارٍ تمامًا رغم طبقات ملابسى المتعددة .. عارٍ من الدفء الأبوى والأخوى وطبقات الأصحاب التى كانت دائمًا تحوطنى .. وأخيرًا من حرير حب الحبيبة. هل كانت يداى دافئتان طوال الوقت لشعورهما بالتزام أن تدفئ يداها؟ أم أن يدها الصغيرة كانت شعلة الدفء فى قلب يدى مانحةً حياتى كلها الحرارة والضوء الهادئ ؟
     أسير على غير هدى .. كابوسى ليس فى نومى ، بل فى صحوى .. فى ادراكى لوحدتى .. قدماى تمتثل لرادار غامض وتقودانى دائمًا لأماكن تجمعات البشر .. استدفئ بأنفاس الازدحام. يعبّر مصطلح "أخلاق الزحام" عن صفات سلبية لمجتمع ما، أما بالنسبة لى فــ"احساس الزحام" هو المعادل النفسى لمفهوم الأمان ..
     أسير وأسير .. أفكر فى معنى حياتى وخبراتى السابقة .. أفكر فى كل النصائح التى تلقيتها منذ خروجى للحياة وحتى قبل ساعات قليلة .. هراء .. كل النصائح هراء .. مصطلح "نصيحة" فى جوهره، هو تغليف لحالة التعذيب السادية التى يمارسها "الكبار" و "الحكماء" على المُعَذّبين من أمثالى. لماذا تنصحنى؟لأنى قد وقعت فى مشكلة؟ حسنًا .. دعنى لآلامى إن لم تكن قد أتيت لتضميد جراحى ومداوتى، لا احتاج نصيحتك الرخيصة.. الآن عندى ذلك الجرح المُشرّف المدعو "خبرة". هل لأنى لم أقعْ بعد فى مشكلة، وتريد تجنيبى إياها؟.. وفرْ عنك عناء الكلمات.. الإنسان لايتعلم بما يدخل أذنه، بل بما يدخل قلبه وعقله ويمتصه كيانه سواء "بالخبرة" أو أى نوع من أنواع الصدمة. لاتورثنى أيضًا خوف من مجهول، ربما لايكون عندى –بالفطرة- قدر من الحماقة يوقعنى فيما وقعت فيه، فالحذر ليس ناتج نصيحة فقط، بل هو ليس ناتج نصيحة أصلًا. أو قل لى ماذا انتفعت أنت يا ناصحى مما سمعت من نصائح فى حياتك؟ لماذا إذن تلقننى "خبراتك" ولا تريد لى أن تكون حياتى حاصل خبرات مثلك لأنصح بها أخرين. شىء مدهش أن يستغل البشر حماقتهم وكبواتهم ليمارسوا نوعًا من "الحكمة" على الأخرين الأقل حماقة!
      يجذبنى صوته فى شرودى .. تأخذنى قدماى إليه .. يختل رادارى ويظنُّه مجموعةً –وليس فردًا- لسبب الكورال الذى يغنى خلفه .. يغنى ويرد عليه صوت الكورال فى الراديو على عربة البطاطا. لا أميزه لاختفاءه وراء الفرن على العربة المتواضعة. أدور حولها فأجد طفلًا -يغنى مع الراديو-  ووجهه مضئ كالقديسين, ضوء الفرن الهادئ يضفى عليه هالة من القداسة والغموض الساحر .. ينظر إلىّ وكأنه يبتسم، أدقق فأجده لايبتسم حقًا.. يطول التحديق ويظهر فى وجهه الاستفهام. "عايز بطاطا" .. كان لابد أن أطلب ، لو انصرفت بعد تحديق –لاأعرف كم زمانه- للعننى فى سِره، لاتنقصنى لعنة قديس فى حياتى البائسة.
-اتفضل ياباشا
-لأ أنا عايز ده.. خد الخمسة ومش عايز باقى
-جدر البطاطا بجنيه يابيه .. عايز تدينى خمسة خد خمس جدور، ولو مامعكش فكّة أفوكّلك
-أصلى طلبت واحدة مخصوص
-وماله .. نفس السعر، بس هاتستنى شوية
     فى الحقيقة هذا هو سبب طلبى المخصوص، كنت أريد الانتظار ولا يوجد مبرر غير انتظار ثمرة نيئة حتى تنضج. لماذا أريد الانتظار؟.. هل لأختلس حرارة الفرن؟.. هل لأسمع الأغنية القديمة ذات اللونين الأبيض والأسود حتى النهاية؟.. لماذا؟
-بس أنت ليه بتقول جِدر بطاطا مش كوز أو زِر زى ماسمعتها فى فلم قبل كدة؟
      يصمت حتى ظننت أنه لم يسمع سؤالى، أو تجاهله لأنه سأَم حوارات الزبائن، ثم قال دون أن يرفع عينيه عن نار الفرن أو يتوقف عن تلقيب الثمار بعصاه.
-أبويا الله يرحمه كان بيقول كدة وأنا خدت الصنعة منه.
تممت مع تنهيدة عميقة ..
-الله يرحمه
      وكأنما جذبته التنهيدة –بصدقها- فرفع عينيه المحمرتين إلىّ فجأة بابتسامة، ابتسامة دافئة من قلب نار مست كل عظامى برعشة. خفتُ أن ينتهى الحديث فأردفت:
-أنت عارف أن تعبير جدر بطاطا دا أكتر تعبير صح، علشان البطاطا دى جدر بيبقى تحت الأرض ، زى البطاطس والقلقاس كدة..
      ينظر إلىّ نظرةً طويلة لم أفهم معناها، حتى إنى راجعت ما قلته!.. هل له مرادف أخر فى لغة أخرى لايعلمها إلا هو يجعله ينظر إلى هذة النظرة الثاقبة لأخر طبقة فى قعر روحى؟
-ماأنا عارف ! .. البطاطا دى من جنينة حوش بيتنا، عارف يابيه...
      حسنًا قُل هيا!.. أريد أن أعرف.. فى كل ثانية من الصمت يدوى كرباج الألم بألف جلدة على نفسى .. ارحمنى وقلفما ستقوله الآن هو كل ما أريد أن اسمعه فى حياتى .. نار عينيك جففت أعماقى تمامًا ، وريّك لعطشى بما ستقوله هو ماسوف ينقذنى من التشقق والانهيار الكامل.
يبدو أن شوقى واضح فى عينىّ.. لذا أكمَل..
-أنا لولا الحاجة، ماكنتش بعت البطاطا دى، كنت جمعتها وكلتها أنا وأمى وستى وأخواتى..ناكلها لوحدينا كلها، عارف ليه يابيه؟ علشان البطاطا دى فيها من أبويا الله يرحمه، وإحنا بس اللى من حقنا ناكلُه..
     هززت رأسى بأنى فهمت، وهممت أن أُعزيه،لكنّ –للعجب- هزة رأسى جائت برد فعل غير متوقع.. إذ بدا أنها استفزته جدًا!
-على فكرة يابيه أنت مش فاهم يعنى إيه البطاطا دى فيها من أبويا ..
-لأفاهم.. فاهم.. يعنى أن أبوك الله يرحمه كان بيشتغل نفس الشغلانة فــ ..
-لأ فيها من أبويا فى لحمها.. فيها من جِتِتُه..
تنوعت الانفعالات على وجهى من تقطيبة عدم فهم.. ثم انفراجة رعب.. وهو يراقب
-إز .. إزاى .. يعنى .. هو .. إزاى؟
-البطاطا فى الجنينة اللى جنبيها مدفون أبويا فى الأرض ، والبطاطا فى الأرض بتبقى مدفونة جنبه و ....
-مدفونة جنبه؟!... هو أنتوا دافنين أبوكم فى جنينة بيتكم؟!
-لأ يابيه إحنا ساكنين فى المدافن..
     اصمت وتسكن ملامح وجهى.. واضطرب داخلى كبركان على وشك تدمير قارة بأكملها.. يحدق فىّ، ثم يستفيق ويتذكر البطاطا التى نسيها داخل الفرن.. ويحرك عصاه بسرعة وقلق محاولًا انقاذها..
-ماتتخضش ياباشا.. البطاطا زى الفل، مش هاقولك حلوة زى العسل، هى حلوة زى البطاطا..
      هو الآن يحاول ممازحتى، ربما ندم على حواره السابق والآن يبحر بى خارجًا مرة أخرى لشاطئ السطحية.. لكنى أجدف فى الإتجاه العكسى بسرعة..
-وليه كان نِفسَك تاكلها لوحدك أنت وأسرتك ومش عايز تبيعها؟
ينظر لى محاولاً تقدير قوة احتمالى لما سيحكيه..
-علشان أبويا ...
 -ماله؟
      ينظر للفرن ويقلب بقوة وعصبية وقد قرر –وقراره بَيّن- أنه سيحكى، أفهم أو لا أفهم.. احتمل أو لا احتمل.. لايهم.
-أبويا بيكلمنا فى البطاطا.. روحه فيها ياباشا.. عارف أزاى؟.. لونها بلون إيديه السمرا من الشمس وحريق الفرن.. دافية زى حضنه الدافى.. مش سخنة يابيه، دافية.. مش بتحرق، حلوة ومسكرة زيه.. أبويا كان "تِمُّه زى السكر" زى ما بتقول سِتّى.. بحس أنه بيبعتلى فى البطاطا النصايح والحكايات اللى مالحقش يقولهالى فى حياته.. عارف يابيه.. استغفر الله العظيم استغفر الله العظيم .. لولا أنى عارف أن البطاطا ربنا خلقها زى كل الزرع كنت قلت أن أبويا هو اللى خلقها.. علشان أبويا كان.. أنت بتعيط يابيه ؟!
      فقت! .. لماذا استفقتنى؟!.. أبكى أو لا أبكى مالك وتفاهتى !
-لأ ...
-أنا أسف يابيه ، لمؤخذة ضايقتك، عارف يابيه حضرتك أول حد أقوله الكلام دا، بخاف الناس تتريق علىّ، أو تقرف أو تتشائم من البطاطا لما تعرف أنها مزروعة فى مدافن.. اتفضل الجدر بتاعك..
أخده منه وأنا أرتجف..
-أنت بردان يابيه ؟ لو بردان ممكن تفضل واقف جنب الفرن تتدفى، بس كدة لما تيجى تمشى هاتستهوى.
أرتجف من حبور اللحظة، من جلال الموقف.. أشعر أنى أحمل رفات نبى لا ثمر نبات.
-أنت قرفت من كلامى يابيه؟
-لأ... لأ خالص بالعكس..
-أمال ماكلتش البطاطا ليه، علشان اتلسعِت فى الفرن؟
-لأ هاكلها أهو ..
      اُقشرها بهدوء .. اضع القشر فى ترتيب تحت الثمر ولا ألقيه فى السلة المجاورة ، وأغمض عينى وأشرع فى الأكل .. أُحدّثه فى أعماقى ..
"انصحنى .. اعطنى من عندك أيها الأب الحكيم .. أعطنى من قبص روحك ياشعلة الإنسان المتقِدة وهى مطمورة .. يابذرة بركان حياة .."
افتح عينى وأنا أكل وأناجى فأجد الطفل فاغراً فاه فى دهشة ..
-أنت بتعيط كدة ليه يابيه !
-أنت ولد حلو خالص .. ربنا يخليك لأهلك ، أنت على طول بتقف هنا ؟
-لأ مش دايمًا .. بروح فى المواسم الحِتت الزحمة ..
-مممم .. أصلى حبيت البطاطا بتاعتك جدًا ونفسى أبقى أجى أخد من عندك على طول ..
-ربنا يخليك يابيه ..
-أنا بتكلم جد مش بجاملك.. أنت ولد شاطر خالص وبتعمل شغلك كويس قوى
-مع أنى بكرهُه.
-ليه؟
رمقنى ملقيًا فى وجهى كل إحباط العالم .. سحقنى، فاحتقرت ذاتى..
-أه أسف .. فاهم فاهم .. يعنى فهمت قصدك، قصدى كنت.. يعنى معلش..
هنا جائت سيدةٌ بطفلتين توأم تطلب منه لهما ..
-لو سمحت كوزين بطاطا بس يكونوا قد بعض بالظبط علشان البنات مايتخنقوش ..
-أمرك ياهانم
-كام؟
-أتنين جنيه
-ليه؟ دى حتى البطاطا صغيرة ودا الموسم.. كفاية جنيه ونص قوى ، وأتوصى بسرعة علشان باباهم راكن صف تانى مش ناقصين ياخد مخالفة ..
-اللى تشوفيه ياهانم ..
مدّ عصاه للفرن يسحب ثمرتين ورمقنى بنظرة جانبيه متمادياً فى تعذيبى .. نظرة "أرأيت ؟ - أفهمت ؟ - أنت تعرف أكثر مما يجب – ما رأيك فى مزاد بيع أبى؟- أذهب ودعنى لألمى – أعد لى أبى الذى معك .."
أقسى وأرهب لحظات حياتى الفاصلة هى الآن .. ألملم باقى ثمرتى مع قشرها.. احتضنها بشدة وأهرب ...

كارولين نبيل داوود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق