الأحد، 26 ديسمبر 2010

الارتجالة الرابعة، النص الثالث: حديث القهوة

لم تكن تعلم أبدًا أنّها تراه طيلة الأيام الثلاث الماضية، فقد كان معها بالفعل..
كانت جدتي تحكي لي دائمًا حكاية الرجل الذي شرب القهوة بالملح لمدة عشرين عامًا إرضاءً لزوجته، التي -لما قابلها لأول مرة- من شدة ارتباكه طلب من النادل قهوة مع قليل من الملح بدلا من السكر، وعندما سألته.. اضطرب، وقال لها أنّه يفضل القهوة بالملح، وقبل أن يموت بأيام قليلة، صرّح لها أنّه كذب عليها ذات مرة.. في أمر الملح، حتي لا يظهر أمامها مرتبكًا، وظلّت المرأة بعد موته تشرب القهوة بالملح.. وتؤكد لي كمّ الحب الذي يربط هذين الزوجين.
وكانت جدتي تحدثني -وإشراق ابتسامتها يُخفي كل تجاعيد وجهها، الغائر منها والبارز- أنّها على وعد مع زوجها الحبيب منذ أن تزوّجا؛ فإذا مرض ستمرض، وإذا صحّ تصح.. وإذا فارق فلابد أنّها مفارقة..
ما كنتُ لأستغني أبدًا عن حكايات جدتي منذ الصغر، وها أنا في العشرين من عمري، ومازلت أعشق إشراق وجهها عند الحكايا، وهذا البريق الذي لا تراه مطلقًا بعينها إلا حينما تحكي عن جدي، أو حينما تجلس جواره صباحًا وهو يحتسي قهوته.. تظل تنظر إليه، ولا تمتلئ عيناها منه أبدًا.. وكأنّ هناك حديث خفي لا يسمعه سواهما، وفي الوقت الذي ينتهي فيه جدي من قهوته.. يحتضنها بقوة قد تسمع بها العظام وهي تصدر هذا الصوت المسمي بـ(الطقطقة ويقبلها قبلة سريعة بشفتيها؛ فلم يمنعهما يومًا كبر السن من هذه العادة، حتى مع وجود أحفادهما، ثم يمضي إلى عمله، ومؤخرًا إلى القهوة..
  وفي يوم رحيله لم يُقبّلها، بل أطال من سكونها بين ذراعيه، وخرج.. ولما عاد كان اصفرار وجهه وصوت أنفاسه غير مطمئن، حتى حدث ما حدث بعد ساعة من حضوره..
حين قالت جدتي لأمي ثالث أيام العزاء: "أبوك معي.. إنّه لا يفارقني لحظة"، حسبتها أمي جملة تقليديّة عابرة، مما يُقال دومًا في مثل هذه الظروف.. لم تكن تعلم أنّها ستدخل غرفتها -بعد نصف ساعة- لتجدها بلا حراك، تحتضن جلباب جدي.


رانا عمر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق