الأربعاء، 20 نوفمبر 2013

القصة الفائزة بالمركز السابع في مسابقة مغامير للقصة القصيرة


في المقهى


                                                       " لا شئ يقتلنا أكثر من انتظار أحد نعلم أنه لن يعود أبداً "
"
        الهواء البارد يصفعُ بقبضته وجهي المتعب، يُخرجُ مني بعضاً من نفسي ويجعلني أسيراً للذكرى، يخلعني من حاضرٍ قاسٍ ويزرعُني في ماضٍ قد غلب عليه حنانٌ دافئ تفوح منه رائحة خبزِ أمي التي كانت تقول لي: "سوف تندم يا عامر بخروجك من المدرسة" ، توقفتُ بجانب الطريق وأخذت ارتِبُ بيدي المرتعشة على المقود نظرت حولي بنظراتٍ صماء ، وشعرت هناك بضيقٍ لا بأس في حدته ، مددت بيدي نحو المرآة الداخلية للسيارة موجهاً بها نحوي ، مُسترسلاً بعض النظرات المتفحصةِ نحو وجهي المربوع، وعيناي الجاحظتان، وذقني الإبريةِ الملمس، يدي التي امتدت إلى مسجلِ السيارة الذي أطلق أُغنيةً هادئة، بددت عني غمامة الضيق هذه وجعلتني أُكملُ طريقي .

أخذتُ أجوب شوارع المدينةِ المكتظة شارعاً شارع ، أستنشقُ بعضاً من رحيقها المختومِ بقسوتها الجارفةِ الممزوجةِ برائحةِ مداخن السيارات، مُتجاهلاً كُل الأيادي التي تلوحُ لي بُغية أخذ توصيله نافضاً عني كل المسؤوليات التي تُحاصرني في زاوية الدنيا، توقفت عند المقهى الواقعِ في إحدى أزقة المدينة، هذا المقهى له وقعٌ أزلي الغصةِ في نفسي، فقد كان المقهى ذاته الذي تواعدنا أنا و"عفاف" بالزواج قبل أن أعمل كسائق سيارة أجرة، سنوات انطوت ورائها سنوات ولم  أستطع أن أنسى ذلك اليوم السوداوي حينما هزَّ  أبوها سبابته في وجهي قائلاً :" أُعطيك ابنتي اليوم وغداً نرسل لها قوت يومها.. أُخرج من بيتي ولا تُعِد ذِكرَ الموضوع" !! . لم يكن لدي سلطةٌ على نفسي في ذلك اليوم حين لمحت "عفاف" في إحدى الأسواق حيث كانت تمشي بخطواتٍ متقاربة وهي تتحسس تلك الاستدارةِ البيضاويةِ لانتفاخ بطنها لم يكن لدي سلطةٌ لإخفاء تلك الحرقةِ التي بدت واضحةً كشمسِ تموز على وجهي المحمرِ، ذات العينين اللتين كُنت أغوص في أعماقهما في تحديقٍ سرمدي، هما الآن ملك زوجِها السبعيني .
اتجهتُ إلى المقهى بخطواتي المثقلة، أحسستُ حينها أن الأرض تجذبُني إليها بشدة، دخلتُ المقهى ثم جلست على أولِ طاولةٍ حطت عليها عيني، أخذتُ أتنفسُ بِعُمقٍ حتى هدأت نفسي.
- أهلاً بك سيدي شرفت مقهانا الصغير ...ماذا تحب ان تتناول؟
قالها النادِلُ بتملُقٍ زائد.

أذكرُ أنني طلبتُ فنجان قهوة مع قطعتين من السكر ، بعدها بلحظات وجيزة  أحضر النادل طلبي ثم انصرف بهدوء . أخذتُ أذوِبُ قطع السُكرِ  في فنجاني، انجذبتُ إلى صوتِ طقطقة الملعقةِ بالفنجان وبدأت القهوةُ ترسم لوحاتٍ  على السطح ، لا أعرف لماذا توهمت أني رأيت وجه "عفاف" الضاحكِ والحزين في فنجاني، أخذتُ من فنجاني رشفتين ثم بدأتُ أُحرِكُ الفنجان برؤوسِ أصابعي بشكلٍ دائري. هناك وعلى بُعدِ بضعةِ خطواتٍ مني ، كان رجلٌ يجلسُ  قُبَالتي يحتسي القهوة لاحظتُ  أنه يرمِقُني بنظراتٍ غير مريحة أشحتُ بنظري عنه وتسللتْ نظراتي إلى الزبائن كان هُناك على ميمنتي فتاةٌ غزاليةُ العينين وبشعرٍ أسود مطروحٌ  على كتفيها بانسدالةٍ حريرية تتلخص فيها معاني الأنوثة، كانت برفقةِ رجلٍ خشن الملامح،  طفق يمسحُ بمنديله المصفرِ جوانب جبهتُه الفسيحة.

 تلفت يمنةً ويسرة  قبل أن تسقُط نظراتي في بؤرةِ العين لذلك الرجُلِ الذي كان يُراقِبُني بِكُلِ هذا النهمِ المباغتِ هربتُ من سيلِ النظراتِ مُتفحصاً ساعتي فأخذ هو يتفحص ساعته أيضاً،  خلت أن تكون مصادفة فمددتُ يدي إلى فنجاني فمد بيده الى فنجانه! التوتر عندي وصل الى ذروته فنظراتُه كانت كأسهمٍ موجهةٍ نحوي تجتاحني بحدة تجعل أفكاري غير واثقة من تسلسلها هالني هذا الكم الهائل من النظراتِ المتمعنةِ تمالكتُ نفسي قليلاً قبل ان أنهض منسحباً باتجاه دورة المياه حتى أنفرد مع نفسي قليلاً .


 وهنا فكرت:
 "تذكر يا عامر.. تذكر يا عامر ..من يمكن أن يكون ؟ آه لا بد أن يكون ذات الشخص الذي ركب معي قبل فترة ونسي محفظته...لا. لا ذاك الرجل كان أجرد الرأس ذو شعيرات مبعثرة هنا وهناك ،اذاً من يمكن أن يكون ؟ ..سوف أخرج الآن وأتجه اليه وأسأله هذا السؤال الآن"
تحركت بخطواتٍ ثابته فتحتُ باب دورةِ المياه بحثتُ بنظري عن الرجل فلم أجِده،  توجهت إلى مكانِ استلام الطلبات باحثاً عن النادل لمحته بجانب باب المطبخ، شرعت يدي الى الأعلى ملوحاً بها الى النادل فأتى مسرعاً..
- تفضل سيدي أيةُ خدمه.
- الرجل الذي كان يجلس على تلك الطاولة ..هل تعرف من يكون؟
- لست واثقاً سيدي بأنه كان على تلك الطاولة أحدُ الزبائن!
- ماذا اتقصد انني فقدت عقلي كان هناك رجلٌ على تلك الطاولة.
- العفو منك سيدي ولكنه يبدو عليك التعب.
اتجهت الى فنجان قهوتي ، جلستُ على المقعد واستقرت جبهتي على سطح الطاولة ،مُتحاشياً تلك النظرات العبثية التي كُنتُ أنثُرُها حولي،  ضجةٌ كبيرة خلقها ارتطام الملاعق بالفناجين،  وتراقص الكؤوس بالأيادي، وهمهمات وهمسات كان تُذرفُ من أفواه الزبائن .
-          هل تريد شيئاً آخر سيدي؟
قالها النادل بنبرةٍ أجفلتني قليلاً ، لم أطلب شيئاً فكُنتُ لم أُكمل فنجاني ، نظراتي مازالت مستقرة على الفنجان ، ارتفعتُ بنظري قليلاً تجاه الطاولة قُبالتي، فوجدت ذات الرجل على الطاولة، استدرت بسرعة نحو النادل لكنه كان قد انصرف .
أمعنتُ النظر قليلاً بالرجل كان وجهه مألوفاً لدي، لكني لم أستطع حينها التذكر أين ومتى رأيته،  هنا انتابني شعورٌ فوضوي بأن يكون من الشرطة جاء ليلقي القبض علي لتأخُري عن تسديد الشيكات المستحقة للبنك، في ذات اللحظة تفتح فيا الخوف فتذكرت وجه أمي الذي بدا كضوءٍ أبيض يتسلل فيضيئ العتمة التي تجتاحني.
نظرتُ إلى الرجلِ بعينٍ صقرية، كان ينظر لي بذات اللحظة، تراشقنا بعض النظرات الجافة الممزوجة بغضبٍ ذكوريٍ مكبوت، حركتُ يدي اليمنى فحرك يده اليسرى، تقليده الصبياني لحركاتي جعلني أوقنُ أن الرجُل أعسر ، كيف إندس هذا الرجلُ بين بعضي وجعلني في ريبٍ من كل شيء حتى من نفسي،  قلبي كالخرقةِ قُدام السيف ،  وروحي كالقشةِ قُدام الفأسِ ،  أخذتُ أُخفي ذلك التوجس الذي لفني وأحسستُ به يطبقُ على صدري راسماً على وجهي ابتسامةً حامضة،  تلك الابتسامة قابلتها ابتسامةٌ مماثلة على ثغر الرجل، فتحركت فيَّ مياهُ الجسارة،  وبين النظرة وبين البسمة احترق  الحس أعطى إلتماعةً قزحية خرجت من عيني ، أخرجت قواي من قفصِ أضلاعِ صدري ونهضتُ كنخلةٍ باسقة
فبادلني النهوض هو أيضا كان يماثلني بالطول،  تقدمتُ بخطواتٍ وتدية نحو الرجل ما همني شيءٌ سوى معرفة حكاية الرجُلِ الصامت،  اقتربت أكثر  وكانت ملامحه تتوضح أكثر،  زجرته  بنظراتٍ ثاقبة وهو كذلك لم يكن أدنى مني عزيمةً ، كان كثورٍ ينتظرُ لحظة الهجوم ،فقلتُ في نفسي: " ماذا سوف أقول له؟...نعم سأصرخُ في وجهه قائلاً من أنت؟ وما هي قصتك؟" ، وعندما وصلتُ هالني هولُ ما رأيت لدرجةِ أنني لم أعد أقوى على الحركة وسقطتُ كورقةِ خريفٍ ريفية،  زحفت على الأرضِ قليلاً انتبه لي كل من كان في المقهى، رفعتُ جسدي الملتصقِ على الأرض وأطرقتُ مُسرعاً إلى الخارج يتملكني كم من الذُعرِ من كوني ولساعةٍ كاملة كُنتُ أُبصِرُ نفسي في المرآة.

 عمر جمال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق