الاثنين، 3 يناير 2011

الارتجالة الرابعة، النص السادس: ابتداء


حين قالت جدتي لأمي ثالث أيام العزاء: "أبوك معي..إنّه لا يفارقني لحظة..حسبتها أمي جملة تقليديّة عابرة، مما يُقال دومًا في مثل هذه الظروف.. لكنني صدقتها؛ فقد لمحتُ لمعة الصدق تبرق في بحر عينيها الأزرق، والتي طالما أخذتني معها وهي تحكي عن أيام صباها..كما أنّها نطقتها بتلك النبرة الهادئة ذات الدلال، التي كانت تخصّ بها جدي وحده..
في الليلة التالية.. نبهني من النوم صوتها وهي في صحن الدار الواسع، تجلس مستندة إلى الحائط الذي لم يُغطَ طوبه الأحمر بأسمنت منذ إعادة بنائه.. كانت مغمضة العين، مبتسمة القسمات.. تردد بهمس:
"يا غايبين عن العين.. امتى تزورونا..
نزل القمر من عاليه.. خوفي لَتنسونا..
يا غايبين والقلب.. ماعادش طايل فرح..
طُلّوا علينا ف ليل.. يمكن تواســونا..."
  تسرّبت مني الدموع وأنا أتمايل على صوت وجعها المنَغّم، ولم أتمكن من هتك لحظتها.. غير أنّ صدى كلماتها قد ثقب جدار الأمن، وسرّب الخوف إلى روحي؛ فلم يعاود النوم ارتكانه إلى جفني سريعًا.. وما إن عاد حتى تلقفني جدي بين يديه الضخمتين.. كان يُهدهدني وكأنّي طفلة لم أبلغ العامين بعد.. لكنني أستطيع تمييزه وفهم كلماته.. ما لبث أن قرّب أذني من فمه، وهمس لي: "أخبري جدتك أنّي معها، ولن أفارقها لحظة"، فأجبته أنّها تعلم ذلك؛ فانتشر الرّضا على ملامحه السبعينيّة، وأغمضتُ عيني لأفتحها على نور الصباح...


هدى فايق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق